الجمعة، 28 ديسمبر 2018

غروب وشروق














غروب وشروق

مجاهد الطيب


   كأنّه يشاهد الفيلم للمرة الأولى ، ومع ذلك نزل فجأة ، لم يغلق التلفزيون ، سمح لي بمشاهدة ما تبقى  ومضى تاركا آخر التفاصيل: (الدفراوي سيلقي من السيارة علبة سجائره المدون بها موعد الاجتماع التالي للتنظيم السري ، صلاح ذو الفقار سيلتقط العلبة ويخبرنا ويخبر رشدي به)، ترك هذه التفاصيل، ليس مسايرة لمن ينتفضون فجأة في قاعات السينما؛ ليسجلوا نباهة قبل إضاءة الأنوار.

 

   كانت المرة الأولى التي يلتقى فيها سعاد ، بعد “غروب وشروق ” مباشرة، لما قِيدَ أبوها عزمي باشا رئيس قلم البوليس السياسي إلى السجن تحت حراسة رجاله، وفي مقدمتهم الصاغ فريد مكرم ( محمد الدفراوي )، ومضى رشدي أباظة بصحبة صديقه الوحيد كابتن طيار أمين عاكف إلى حال سبيلهما؛ لأن الفيلم قد انتهي بالفعل، في هذه اللحظة وقفت سعاد إلى جانب الشباك ، وأزاحت ستارته؛ لترى الراحلين، وترى وحدتها، هنا بالضبط كان الموعد.

 

  استغرقا وقتا أكثر من اللازم فيما أتذكر وهما يقطعان الفناء الواسع . في حرم القصر الخاوي على عروشه يسيران، وفي نهاية الممر الطويل جلسة أولى بينهما تأخرت طويلا، ونادل ينتظر.

 

   أشار إلى التاكسي، طلبت سعاد شايا بالنعناع وجاء له النادل بقهوته كالمعتاد، كان بوده أن يغير المعتاد، راحت روحه للنعناع،  لكن ، ليكن.

 

   لم يتطرقا مطلقا لما حدث لها، هي تعرف في الغالب سبب مجيئه، كان قد شاهد الفيلم مرارا، وآلمه ما وصل إليه الحال في المشهد الأخير، إلا أنه في هذه المرة بالذات كان عليه أن يفعل شيئا.

 

   كان المشهد مستقلا، وإنْ ظلت سعاد بنفس الفستان ذي الأكمام الطويلة المنتهي بـ ياقة شبه دائرية من الدانتل الأبيض الـدانتيل محكَم بـ بروش – كزرار أخير قبل الطلوع إلى الوجه.

   لم يتطرقا كما قلت سابقا لما حدث لها ولمديحة عزمي، على اعتبار أنه ما جاء إلا تأثرا و تقديرا، أو لأن الكلام في مثل هذه الحالات زائد مهما قلَّ، ناهيك عن أن دموعها ما هي إلا المشهد الأخير من الفيلم، ومحمود المليجي لن يدخل السجن وربما يتمثَّل في فيلمه القادم الأستاذ زكي رستم؛ فيتزوج من بنت جميلة تصغره بثلاثين سنة على الأقل؛ ليصير للحب نهر . وربما يكون رئيس عصابة ، وليس لديه بنت وإنْ حدث فلن تكون سعاد، ولذا فسوف يستحق عن جدارة مصيره الذي ناله في الفيلم السابق.

 

   رشدي أباظة، وإن تمنته سعاد ، لم يعد له دور، حضوره الآن سيفسد كل شيء،  مناسبته في غيابه، اختفاء رشدي ، أقول بتجرد، في مصلحة الدراما تماما.

 

   كانت سعاد ساكتة تضع يسراها على خدها ، وكان هو (بمسئولية)يتحدث بصمت كسلاسل الذهب.تحادثا طويلا، لم يتركا أيا من الأشياء التي تستحق، كالمعتاد ما لا يستحق كان أجمل، كانت سعاد وكانت مديحة، وكانت تتململ.

 

   صمت رهيب وجمال رهيب، سعاد لمّا تشوفها عَ الطبيعة مختلفة شوية ، لم أستطع أنا ولم يُرِدْ هو أن يميز طبيعة الاختلاف؛ لإنُه مش ها يعرف سعاد النهارده يعني. كانت تبادله الصمت بطلاقة نادرة، جملة الحوار الوحيدة التي نطقت بها أنْ نادت على النادل ” ممكن مية لو سمحت ؟ “،بالقطع لم تكن تريد الماء، جاء النادل بكوب الماء، ثم تراجع، وهو ينسحب من الكادر أزاح الببيون ثم السُّترة وانضم إلى كثيرين خلف الكاميرا أنهوا أدوارهم ولم يغادروا، ظلت سعاد مدة تنظر إلى ” ممكن مية لو سمحت “، بهدوء وراءه ذهول، لن يُسجَّل ذهولا ، كانت تنظر إلى ” ندائها ” للنادل بامتنان من اكتشف صدفة أن بوسعه أن يتكلم وبوسع الآخرين أن يسمعوه، بالمناسبة كانت هذه هي المرة الأولى ( والأخيرة ؟ ) التي يعيش فيها على طبيعته و أمامه جماهير.

 

   أثناء الشاي بالنعناع وبعده تبدلت سعاد كثيرا ، من صمت إلى صمت ، لا صمت يشبه الآخر ، تجولتْ (بتأنٍ) في أنواع من السكوت يصعب وصفها، نعم صمتها حزين، لكن الحزن (كما هو ثابت ) لا يخفي ما دونه.

 

    رغم أنها كانت ترتدي ملابس مديحة عزمي وكافة إكسسوارت الروح، إلا أنها ضحكتْ، هل تعرف ضحكة سعاد؟ ضحكتها مجلجلة. صح ؟

 

   ضحكتْ سعاد ؛ فوقفتْ فجأة ، وأرسلت يديها خلف ظهرها ؛ ربما تمهيدا لحيرة سوف تتلبسها بعد عشر دقائق . بدت يداها وهي حرة كأنها ليست لها بالذات، ثم عادت وجلست و أخذت تدندن ما سوف تقوله بعد خمسة عشر عاما:

" أنا باضحك من قلبي ياجماعة/ مع إني راح مني ولاعة/ وبطاقتي في جاكتة سرقوها/ وغلاسة كمان سرقوا الشماعة"

 

   كانت سعاد في مشهد ” الشيكا بيكا ” كما تعرف ترقص وتغني بحماسة ؛ لتظهر خيبة أملها في الحماسة .أمسكت بالبالونة لو تفتكر ونفخت فيها بعزمها حتى فرقعت،صمتها الآن مرادف لهذه الحالة التي ستأتي بعد سنوات، ليس مرادفا بالضبط.

 

  لا يحب فيلم شفيقة ومتولي ، لكنه من الحريصين على  بانوا بانوا 




   في بانوا يجلجل المزمار البلدي أولا ثم يختفي، إن كانت سعاد  في بانوا، عند البعض تقدم حفلة تأبين بنفسها لنفسها ، إلا أنه عندما غنت ( بعد موسيقا أطول من اللازم لولا ما حدث خلالها ) لم يتأثر كثيرا بالكلام ، كان صوتها بعد أن وجد محله المختار يمزج ببال مرتاح بين حزن جديد ( ليس عدوا ولا حبيبا ) وبين دلال يحاول أن ينطفئ بخطره،لا ، الدلال يدخل ويخرج كأنه لم يحسم أمره بعد، الصوت الذي صار جسما يراوح بين التجريس، وبين العزلة في عز الجمع، وبين الاستمتاع بلا شبهة أثرة، كأنها استقرت، بعد أن رقصت بالفعل، أنه بات لزامًا أن ترقص للرقص، وأن هذا لا يضير.

 




   في  الشيكا بيكا  - الحركات اللي مش هيَّ - كانت مصدومة؛ لأنه ببساطة : ما ينفعش كده.!
في ” بانوا ” تقريبا الدنيا شالت وحطت ، هِيَّ ورا شوية، هل صارت ترى بوضوح أنَّ ” القلب على الحب يشابي / والحب بعيد عن أوطانه ” ؟



   طيب، لديَّ مشكلة فعلا مع صاحبات الشَّعر الحر ( مهما كان جميلا) اللاتي يعشن أزمة يمكن أن تحل بيد واحدة، وأبدا لا يفعلن، وإنْ، فيكون متأخرا جدا  لكن الأمر هنا بدا مختلفا تماما . أعتقد هو أيضا لديه نفس المشكلة ،إلا أنه رأى أنَّ نفس الاستجابات قد تتكرر بالحرف، لكنها لن تكون نفس الاستجابات.

 

   حين كانت في قصر أبيها، حين كانت ترى إليهم من الشباك، كان شعرها كما تعرف ملموما طبقا لتوجيهات المخرج والسيناريست وتقديرا للظروف، وظل هكذا لوقت طويل، لا يعرف بالضبط متى صار حرا ، قد تكون اللقطة البينية قد غابت عنه ، وربما حدث هذا حين امتد حبل الصمت ،وربما ….. ، عموما ليس هذا ما شغله، لأنك يمكن أن تسمتع بشَعر حر ، ولا تسأل عن السبب.الحكاية أنها كانت تقبض على كوب الماء الملآن، والذي سيظل هكذا، بيدٍ ، وبكف اليد الأخرى المفتوحة تضغط على التراييزة، كأنها تسند شيئا ما، شيئا لا دور له في المشهد، وربما لا وجود له أصلا ، لكن (كما هو واضح ) من المستحيل أن تتركه لحاله، كأنها كانت تعرف أن خصلات من الشعر الذي صار حرا ستطير، واليدان للأسف،مشغولتان.

 

   في الحقيقة، صار مبررا تماما، وعلى الرحب والسعة ظهور الشَّعر الحر، بل طيران الخصلات دون مقاومة، والدليل على ذلك أنه عندما تراءتْ بعد قطع مفاجئ بالبلوزة البيضاء التي تظهر السلسلة الذهبية كاملة،لم ير الـ ” فجأة “، بالعكس كانت النَّقْلَة ناعمة جدا ، وتقبل بحماس كل ما تلا ذلك من ألوان.

 

   أخبـرها بأكثر من طريقة أنه كان يراها على الدوام إلى جانب دورها ورغمه، ويطمئن عليها، لم تكن على ما يرام في أكثر من فيلم.

 

   خلال مسافة في الزمن بدت أطول من الاحتمال صادفتها حيرة ، الحيرة التي أوقفتها وأطلقت يديها منذ عشر دقائق ؟ الحيرة أعقبها تململ، التململ تلاه سكوت جديد، ليس كالسكوت الأول.

 

   اختفت الصورة وبقيَ صوت الصمت يسري، انتظرَ لترجع، لم تعد، لم يعرف التفاصيل ولم يحاول، إلا أنها في لقاء تالِ، رغم أن الفيلم لم يكن على المستوى، كانت والحمد لله أفضل كثيرا.


right side

دوا نُقَط

  دَوا نُقَط - 1-   ما اسم   ذلك الدواء ؟    علبة صغيرة، داخلها زجاجة أصغر، الزجاجة بها قطَّارة، القطارة تنزل منها النقاط بمقدار. الدو...