الاثنين، 31 ديسمبر 2018

هربت الفكرة

     ظل زمنا – كعباد الله الصالحين –  يستيقظ في الصباح الباكر، يشرب الشاي عَ الواقف ، يبحث بسرعة عن واحد من المستلزمات التي لا  تضيع إلا في الصباح، قد يجدها وقد لا ، إلى العمل ؛ بعد باب الشقة مباشرة يجهز بعض الاستجابات على أفعال تخالط التكرار من أزمنة سحيقة  و لا تخفى على أحد،  مع الوقت صارت في حوزته قائمة طويلة من الأداءات ، مختلفة المرامي ، تغطي عددا هائلا من المواقف ، لذا صار في كل صباح يكتفي  بتحديثها . وفي الطريق  تطارده أغنية الصباح من الراديو الأم  ، الأغنية تلح – بلا ملل -ولسنوات طويلة :  يانسمة الصباح / يا معطرة الجناح  . تكرار الغنوة كل هذه السنوات وبنفس الطريقة شكَّك في أي أمل كان من الممكن أن يعقد عليها ، كلما أصرت المطربة على التجويد ، صار من الصعوبة بمكان التعويل على الغناء – (غذاء الروح !!) ،..  هو يعرف أن أحلام كانت المطربة ، ولكن لم تعد ؛صارت الأغنية مع الوقت مقطوعة من شجرة ، تهاتي كل صباح ؛ ربما تضع يدًا على كتف أيٍّ من عباد الله .بالمناسبة، ليس عدلا  مافعلته الإذاعة المصرية على مدار صباحات طويلة طويلة بصاحبة  يا عطارين دلوني  ، و  يا حمام البر.
 
  هربتِ الفكرة :
 ربما كانت في البداية
    الصباح جميل وطيب، هو يحب الصباح لكونه يعتقد من زمان أن بالنوم سيهدأ الحال والبال، هو يحب الصباح؛ لأن أخلاق العباد تكون أهدأ في الغالب، ولأنه يأتي بعد الليل بالذات، وبناءً عليه فقد اعتاد كل صباح على سبيل المكافأة أن يشرب الشاي بالحليب، ومعه سيجارة طيبة نامت أيضا بالليل، لذا كانت بدورها تنتظر الصباح مثله. المكافأة ، أي مكافأة، يجب أن ترضي طرفين على الأقل.

هربت الفكرة
قد تكون ذات صلة بـ أحد العاملين في المطعم:
   كان العامل يقف أمام طاسة سوداء جدا ومعمرة، تعطيك إحساسا لا لبس فيه أنها أو أنك في المكان الغلط. يمسكها العامل من الطرف الآمن، إلى أنْ يتحول زيتها إلى دخان كثيف ينذر بمصيبة، وفي لحظة بعيدة للغاية ينزل بالبيض المخفوق، فتعود الحياة إلى الزيت، وتزدهر الأحوال. 


    في كل مرة أكتم تحذيري، هو لا يتأثر أبدا بمشهد الأدخنة الكثيفة، ناهيك عن منظر الطاسة نفسها. أقول لنفسي ”لن يحدث شيء، وإن قلت له ”، مع الوقت صرت لا أتأثر، لا، لا أعير انتباها على أساس أن هناك أشياء كثيرة في الحياة يصاحبها دخان كثير لاداعيَ له، مع الوقت صرت أصنع أكلي الشهي مثله، أقف أمام الحريق غير هياب، وأنزل بالبيض المخفوق في لحظته، لم استسلم للتحذيرات، مثلي مثله؛ فوصلتُ – بالضبط – لما وصل إليه أحد العاملين بالمطعم.


أو تتعلق بـ 
    ضرورة التفريق بين الوسائل التي استقرت من طول المعاشرة وصارت جسورا ، وبين ما يستجد من معابر طارئة ، المعابر الطارئة بُنيت في ظروف تاريخية ؛ لتحل مأزقا في التوصيل يخص فريقا بعينه . في منطقة المعابر هذه تنشأ بعض الفكاهات التي تمكن المشاركين من تفهم الأمر ، وتتيح فرص عمل حقيقية لروح الدعابة .هذه الفكاهات -الوسائل لا يعول عليها إطلاقا ، لأنها كانت استجابات أكثرمن كونها وسائل عابرة للزمن والظروف . إنْ حاولتَ وبادأت بها فلن تجد آذانا مصغية، هي تعجبك أنت فقط ، أنت تمشي الآن على جسر طارئ ، تم رفعه من زمن ، أنت كمن يضحك من القلب على نكتة ، ليست منتهية الصلاحية . ياريت، هي غير موجودة أصلا.

هربت الفكرة
    علي أي قهوة ، وفي أي صباح كان يجلس هذا الرجل (لم يكن قصيرا ولا طويلا ) الذي يقضم فطيرة سكر؟ ملفوفة في كيس بلاستيك ، عندما ينتهي من الجزء الظاهر منها يسحب الكيس البلاستيك كيفما اتفق ؛ ليظهر جزء آخر جاهز للقضم، الرجل كان يقضم بشهية مشكوك فيها ، ومع ذلك بوسعها أن تقنع ، كان يرد فيما يبدوعلى سؤال لم أعاصره . إجابته كانت موجهة للجميع : السمنة في الفطير حلوة ، إنما في الأكل غلط – مش صحية ، بتوجع البطن.
 

   الفكرة كانت تركض فكيف لي أن …. ؟
” كان على ساحل ما ؟ كان في بلاد الحر ؟
كان الهواء وافرا ، وكانت السخونة وافرة.
  الطقس يجري في الشوارع كحصان أول، وربما كحصان امرئ القيس، أعني إذ يركض ينحبس ما دونه ، أي أن الأشياء تجري بوسعها ومع ذلك لن تقدر، فكما تعرف السرعة ليست شيئا واحدا. مشكلة الطقس التي تولدت أثناء جريه أن الشوارع من فرط الهمة تكاد أن تنتهي، فما مصير الركض؟
   
الطقس وهو يركض يحمل حقيبة ظهر صغيرة جمع فيها الضروريات، رغم ضيق الوقت وصعوبة الظرف أصر– دون معرفة السبب – أن يلبس ملابس أنيقة للغاية، أحس أن هذا سيحل شيئا ، ليست المرة الأولى ، كان قد اعتاد مرارا أن يحترم الأسباب التي تفتقر إلى السببية .
   
ما جري بعد ذلك لا أعرفه الآن ،كأنه ذاب ، لا تقل” كأنه لم يحدث ”، الأنسب: كأنه حدث لآخرين.
 
   المهم عندما كان على ساحل ما، عندما كان في بلاد الحر صادفته مشكلة اعتبرها مشكلة المشاكل، لكن ، بكل هدوء، ظهرت الحاسة الغائبة؛ لتؤدي الغرض ثم عادت أدراجها، أحس أن المشكلة بسيطة للغاية ، وضع يده على كتف نفسه، كأنه سيأخذ صورة للذكرى معها، لكنه تراجع لمسألة تخص الابتذال، رغم أنه كان يتصرف ساعتها بخاطرٍ غائبٍ كمبتكر، كأنه أول واحد يضع يده على كتف نفسه ،معلش ، عاد ووقف إلى جانب نفسه، الابتسامة الواحدة التي كانت تغمرهما عوضت المشهد الضائع، نجح الأمر، أعتقد أن الصورة الآن أفضل كثيرا، كان قد أيقن أن الحل على بعد ثوانٍ، وظن أنه مكتشفه، وبدأ يتعرف على الصبر وسائر عائلته بصبرٍ لا علاقة له بالصبر، ربما ناتج عن أدب وتهذيب الدقائق الأولى عندما تلتقي شخصا للمرة الأولى.
 
   الهواء يأتي ويغيب، وبالتالي كان من الصعوبة بمكان أن يعيش لحظتين تتبدلان بسرعة مهولة كحصان أول، بعد أن مرت الثواني سالفة الذكر، التقط علبة السجائر وآخرج سيجارة، ووضعها أمامه هي والكبريت وانتظم في درس الصبر، عندما ذهبت المروحة جهة اليمين، وعاد هو إلى بلاد الحر، أشعل السيجارة بسرعة مهولة، على أساس أن المروحة عندما تعود ثانية يكون في الأمان، وعلى أساس أن السيجارة ستساعد في استجلاء الأمر.

ربما حدث :
   أنه كان يسير بمفرده على نفس الرصيف ، الذي ضم جماعة من الأصحاب فيما يبدو يسيرون في جلبة خفيفة، خفيفة بمعنى أنَّ هناك من يتحكم في درجتها، أحدهم (صاحب الصوت المنغَّم) كان يتكلم كلاما عابرا وغير مهم بالنسبة لي على الأقل، لو اجتهدتُ في تخمينه دون استناد إلى شيء، يقينًا سيكون عن إحدى مباريات كأس العالم أو عن مظاهرة ما، أو عن انقطاع الكهرباء، أو عن واحدة من مشكلات العمل، إن كانوا يعملون في نفس الوظيفة، ونفس الشركة أو المصنع، أو المستشفى. لم أتحقق عمَّا كان يتحدث بالضبط ، فجأة ظهرت في كلامه ” كلمة”، كأني صرخت : هذه الكلمة أعرفها من زمن طويل، هذه الكلمة لها مَعزَّة خاصة، صرختُ كأني بالأحضان. كانت الكلمة غريبة تماما في هذا الظرف، وقد تكون غريبة فقط ؛ لأن تركيزي ليس على ما يرام. أميل إلى التفسير الأول. كانت من تلك الكلمات المحترمة التي لا تعول إلا على نفسها، من المفردات القلائل اللاتي يتخلصن أولا بأول مما تسببن فيه ، أما ما تسببن فيه فطول الوقت على صلة، من اللاتي في حالة عداء دائم مع فكرة العمل، عداء قائم على التفهم ، على التمنع والرغبة معا، جائز أن تظل “الكلمة ” بلا عمل – ولو قاموسي – لفترات ممتدة تشبه الأبد، لكنك ستلقاها حتما، وإنْ مصادفة، وإن على رصيف، وإنْ كانت تقوم ببعض الأعمال الخفيفة حتى ينصلح الحال.
 
    المهم، مددتُ يدي وخلَصت الكلمة من يده، كان لها مايشبه الامتدادت في أيدي أصحابه ، وفي الهواء الذي يحيط ، لكني تعاملت. الكلمة لم تمانع ، ولم يمانع هو نهائيا. بدت عدم الممانعة كرما بالغا منه ، مما دفع قلبي الذي كان يسير معي على نفس الرصيف إلى أن ينحني بطريقة لطيفة جدا ، كأنه يردالتحية لجماهير غفيرة.

  عندما صارت المفردة في يدي ، رقَّتْ خطوتي على الرصيف ، على أكثر من رصيف . سعيد واللهِ  بما صرت فيه ، قلت أجرب ؛ ما يأتِ بسهولة  يتبدد أسهل . فتماديت في السير في شوارع ونواح ، جلست على قهاوي سبق ودخلتها خالي الوفاض. تمام  تمام .الأمور تسير ، تسير جدا،  كنت أمشي مجبور الخاطر ، مرتاح البال؛ كأني لن أفعل شيئا بـ  الكلمة. 



right side

دوا نُقَط

  دَوا نُقَط - 1-   ما اسم   ذلك الدواء ؟    علبة صغيرة، داخلها زجاجة أصغر، الزجاجة بها قطَّارة، القطارة تنزل منها النقاط بمقدار. الدو...