الاثنين، 23 ديسمبر 2019

سعيد تيتو








أمهر من يصنعون  الطائرات الورقية، في حينا .

    منذ التحاقه بمدرسة غمرة الصناعية قسم النجارة، وعينه على إيطايا تحديدا، في انتظار إيطاليا عمل بعض الأعمال الخفيفة التي تتصل بهوايته، كقص الشعر وكيِّه  بين الأصحاب، نظير أن يقضي الوقت يشرب الشاي والسجائر، أو بمقابل مادي قليل، لكن بالتراضي، المقابل نتيجة لإجادته الهواية لا الحرفة.

     فضلا عن مهارة سعيد الشهير بتيتو في إطلاق  الطيارات الورقية والتحكم فيها عن بعد، من فوق غرفة صغيرة ، فوق سطوح بيتهم، فقد كان يبيع منتجاته، بدأ الموضوع بأن يحضر أحدهم ورق الجلاد ويطلب مساعدة ومشورة سعيد في صناعة الطائرة، ثم صار لسعيد راس مال يشترى به أفرخ الجلاد، ويصنع الطائرة، يبيعها جاهزة للتحليق، الربح الذي يتحصل عليه منك أو من غيرك يعزمك به في الغالب، أو يقول " خلِّي  "، خَلِّي حقيقية، مع تيتو يمكن أن "تخلي" فعلا، دون أن تهتز له أولك شعرة .

    رغم كونه الوحيد في شلتنا الذي كان له مال يخصه بعيدا عن مصروف الآباء . لم يكن له نفسية الكسِّيب ، كأن كل ما يريده يحدث عندما يمسك بالفلوس – نتيجة عمله – بيده ، فورا يتعامل معك كزميل أو صاحب، إن احتجت للمال فلا ضرر ولا ضرار.
    تيتو  شيك جدا، له طراز يخصه في اللبس، وإن كان كله  من الوكالة، رغم قصر قامته الواضح جدا، إلا أن قامته كانت ممثلة بالكامل، لا هادر فيها.
    لا يلعب معنا الكرة بتاتا، لكنه يرافقنا في كل مبارياتنا سواء على أرضنا أو على أرض الخصم ،غير مبال باللعبة، لكننا في الأول والآخر أصحابه.لا يشارك في اللعبة، لكنه لا يكرهها، فقط لا تغريه .
    عندما  سكن بجانبا احمد الصعيدي الطالب بجامعة الأزهر، صاحب الطول البائن والنظارة الشمسية الرخيصة، والمشية التي بها بعض التناكة المميزة، غير المقصودة ، كان تعليق تيتو كلما رآه " نفسي أحمد يسيب لي نفسه ، ده  ييجي منه ، ييجي منه كتير "، يقصد أنه يحتاج – لو تحدثنا بلغة تلي الواقعة بسنوات وسنوات – فقط إلى استايلست!
   سيتخرج أحمد الصعيدي، ويتزوج في بيت أبيه، سيكمل حياته دونما استيالست، سيكمل حياته بهيئة تشي بالشياكة دائما وأبدا، دون أن تلامسها.
  ذات يوم سيختفي سعيد، سيهاجر إلى إيطاليا هجرة غير شرعية ناجحة، سيراسلنا، كما كان يراسل طائراته الورقية، ثم تنقطع الرسائل.
  عرفت أنه عاد بعد أكثر من عشرين سنة، التقيته، كان كما كان: لطيفا للغاية، مقابْلِتُه حلوة كما هي، يستجلب الكلام الودود المرحب بيسر، ينقضي الوقت معه  سهلا مهما طال، أظن وصل رغم تقدم السن إلى ما كان يحلم به تماما. تيتو في المشهد الأخير: ذقن وشنب متصلان ، بنطلون جينز أصلي، وتي شيرت بسيط، لكن ماركة، وعلبة مارلبورو أحمر في جيبه، وأخرى مقفولة أمامه.

 


  

الجمعة، 29 نوفمبر 2019

النادي الفرنساوي






(1)                                                                                       

   اسمها "سماء" وينادونها سما ؛ نظرا لإلحاح طويل منها ، وموقف صلب مدعوم بشواهد تملأ حوائط المدرسة : وسائل تعليمية من صناعتها وصناعة تلاميذها ممهورة باسمها الحبيب :


قسم اللغة الفرنسية
إشراف / مدام ســـــــمــــا رضوان

إذن الكلام عن مدام سما رئيسة قسم اللغة الفرنسية بمدرسة اللغات التي أعرت إليها حديثا ؛ فأصبحت " مستر " بدلا من" أستاذ " ، مدام سما كريمة جدا . كرمها حمَّال أوجه . صديقي الوحيد في هذه المدرسة حتى الآن هو مستر أسامة مدرس اللغة الإنجليزية ، صداقتنا عمرها ثلاثة أيام ، تقابلنا في التوجيه ، ثم في الإدارة التعليمية ، قرّب بيننا أننا سويا أعرنا إلى مدرسة واحدة ، جلسنا على قهوة الاعتماد في ميدان العباسية القريبة من الإدارة ، أبرز ما يميز مستر أسامة في هذا اليوم الفرح الطارئ الذي يملأ وجهه ، سعيد سعادة فوق الوصف ؛ لأنه انتقل إلى إدارة مصر الجديدة ، وإلى مدرسة بارزة ولغات خصوصا . لم أفهم سلاسل الحمد التي كان يصدرها تباعا باسمي واسمه : إحنا كده نقول الحمد لله ، الحمد لله إحنا ربنا كرمنا آخر كرم .

مستر أسامة هبط إلى القاهرة قادما من الصعيد من خمسة أعوام ، عمل فيها بمدارس – كما يقول – ما يعلم بيها إلا ربنا ؛ فعمله كله كان في منطقة شبراالخيمة. عن طريق خاله المحامي الذي تربطه بعضو مجلس الشعب علاقة وثيقة ، و إن تكن من الدرجة الثانية ؛ فهو صديق صديقه ، استطاع عبر تلك الواسطة أن يحصل على تأشيرة " يُنفذ ونُفاد " بالقلم الأحمر ، من أقوال أسامة في هذا اليوم " من ساعة ما جيت القاهرة وأنا محسود .. الاسم شغال في مصر .. دا بيديك وضع برضه بس الواحد كان بينكسف يقول لواحد عدَِّي علي في الشغل ، أقصد الطابونة اللي كنت شغال فيها .

                                                                        (2)

عندما وصلت وصديقي أسامة رحبت بنا مدام سما ترحيبا شديدا ، لم نجد له مثيلا في قسمينا ، وأصرت أن نجلس في غرفة اللغة الفرنسية التي هي أشبه بناد اجتماعي ، تشرف المدام بنفسها على عضويته ، عزمتنا على الشاي ، " وإن شاء الله هاتنبسطوا معانا " ، كانت تتكلم كوكيلة وزارة ، أمام إلحاحها في الفسحة وفي الحصص الفاضية انضممت وأسامة إلى النادي . كان أقدم الأعضاء وأبرزهم مستر عبد العزيز : صاحب بنية قوية ، وشارب أصيل ، أربعيني ، الشيب الذي فشا في رأسه زاده قوة وأضاف إلى طلعته وسامة من طراز شائع .

كانت مدام سما تصر بشكل لا لبس فيه على عزومتنا ، ولا أحد من أعضاء النادي يمانع ، أحاول أن أبدي استغرابي باعتبار المنطق والأصول ، لكن لا حياة لمن تنادي . اللهم تعليقات من قبيل دي رئيسة قسم .. شوف عامللها كام امبارح بس ، كانت تبعث الدادة إلى محل فخيم لتحضر الفطار وبزيادة دائما : كرواسون- باتيه – جاتوهات ، وما شابه . تذكرت على الفور أيامي الأولى في مدرسة المطرية الإعدادية ، حين دخل عليّ أحد التلاميذ وأنا منهمك في الشرح ، يا أستاذ هات ربع جنيه ، أستاذ علي بيقولك . كان هذا في الحصة الثالثة ، وبعد دقائق كانت الفسحة ، صرخ فيّ الأستاذ علي من داخل غرفة صغيرة هي غرفة التربية الرياضية : تعال الحق ..تعال افطر ، مش أنت دافع ؟ وجدت طبقين من الفول وأمما من المدرسين .

                                                                         (3)

تبدو سما في البدايات شخصية لطيفة بسيطة باعتبار أن البساطة لها علاقة بالثرثرة . قدمت شخصيتها على مراحل ، أخذ الموضوع عدة شهور ، لكن ثمة جملة مفتاحية ترتكزعليها غالبا لتبدأ منها الكلام : أنا ما باعترفش بمصر الجديدة بتاعتكو دي . تنطلق بعد ذلك لتعرفنا على أبيها المحارب القديم ، والبلكونة السحرية التي تشرف مباشرة على النيل ، وعن شلتها في آداب القاهرة التي كن يترافقن مشيا على كوبري الجامعة ، وعن حي المنيل اللي هواه يرد الروح .

مستر أسامة كان مبهورا بها : ست جميلة ، بنت ناس يا أخي ، بتفكرني بليلى طاهر ، ما بيبانش عليه السن ، وبعد شهور طويلة يخبرني أسامة " الأبله سما دي مشكلة .. مشكلة .. مشكلة " ، يردد الجملة مرات بأداء تصاعدي ، ولن يزيد ، وكأنها القول الجامع المانع ، وفي كل مرة ينظر إليّ لأعلق.

كانت سما قبلها قد لفتت نظر أسامة إلى أن مداموزيل "سها " شكت منه ؛ فهو ينظر إليها نظرات مش هِيّه ، سما كانت تقول له ذلك ببساطة ، وكأنها تنبهه إلى زرار مفتوح في قميصه. تعليق أسامة تأخر أياما ولم يكن لسما ولا لسها بل كان لي ، قال وهو يعطي لكل حرف حقه من النطق وزيادة : نظرة مش هيه ؟ إزاي؟! أمال عمك حفظي بيبص لها إزاي ؟1الناس دي اتجننت ، سها مين دي اللي ابص لها " أنا عيني مليانة.. أنا مراتى عندها شَرْطة عين ...بصراحة ماشفتهاش في أي ست " ، قال ذلك قاصدا أن يغلق هذا الباب بحسم ، وأيضا تطلع إليّ ينتظر تعليقا .

                                                                     (4)

سها أحدث أعضاء الأسرة الفرنسية خريجة الليسيه – بنطلون جينز- قامة متوسطة –أنيقة - شعرها المنسدل على ظهرها يزيدها قوة تعوض بدنها النحيل – وسيارة 128 بيضاء عبر زجاجها الخلفي ترى بوضوح عددا من الدباديب متعددة الألوان . سها آخر من وفدوا إلى المدرسة ، ومع ذلك تمشى في طرقاتها بثقة لا تعرف مصدرها ، كأنها مولودة هنا ، حين يدق الجرس تراها تمشي مهرولة ، هرولة شيك ، تكشف عن جدية ، تحمل اللوحة ( الوسيلة التعليمية ) باليد اليسرى وتسندها على كتفها كمضرب تنس . وباليد اليمنى أكوام من الكراسات المجلدة بجلاد مميز ، حين ترى هذه الأكوام تشعر أنها في مأزق ، غير أن مشهد مضرب التنس لا يدعم ذلك .

عندما امتلكت سيارة كانت 128 ، اشتريت دبدوبا على سبيل الاختبار ، أضعه بجانبي حين أكون بمفردي ، حتى يحين وقت الاختبار ، في اليوم المناسب أمسكت به ووضعته على الرف الأخير ، نزلت من السيارة ووقفت انظر إليه من الخلف ، لم أستطع تكوين رأي ، ركبت السيارة وانطلقت ، ثم ركنت ونزلت مرة أخرى ؛ لأعيد تقييم الموقف ، لم استرح للأمر ، يبدو أن الموضوع ليس بهذه البساطة .

                                                                  (5)

عم حفظي أو الأستاذ محمد حفظي أستاذ اللغة العربية المخضرم " تبعنا ومش تبعنا " كما يحلو له أن يقول ، يقترب بدأب من الخامسة والستين سن معاشه ؛ فهو أزهري ، كل صباح يأتي بآخر نكتة ؛ آخر نكتة بالنسبة إليه ، يمثل النكتة وهذا هو سبب انفجار الجميع في الضحك حين يسمعون نكتا سمعوها من قبل ، نحيف جدا ، عندما يضرب الجرس لايقوم من على الكرسي بل يقفز وينتظم في المشي مباشرة ، في آخر صيف له قال سأعلمكم شيئا يا لله أهو كله لله ، كله يجي بدري بكره في فصل 3 / 5 ، كل واحد معاه قلم رصاص وأستيكة وبراية وكراسة محترمة ، ها علمكم الخط يا شوية جهلة ، وعلى الله يضمر فيكم ، رقعة ونسخ وثلث وديواني ، سمعتو عن الحاجات دي قبل كده؟ ،معظم أعضاء النادي الفرنساوي والقليل من خارج النادي انضموا إلى 3 /5 حيث حلقة عم حفظي .

                                                                     (6)

مدام سما خريجة مدارس فرنسية ، السِكْر كِير ، متميزة في فرنسيتها كما تقول ، نحن لم نلمس شيئا ، ولا نستطيع.

سما حجابها حديث ، تعد رائدة وسباقة في ذلك ، نحن نتكلم عن أوائل التسعينيات ، لم يكن الحجاب المزود بـ بَدي وجيبات قصيرة تسترها بنطلونات ولا ربْطة الطرحة الاسبنش قد ظهر بعد ؛ فقد كانت تضيق بالإيشارب تقدمه وتؤخره ، وأحيانا تتجلى فتفكه وتعيد ربطه وكأننا لسنا موجودين ، أحيانا ترضي نفسها فتلبس بنطلون جينز وتفسده بجيب ليس قصيرا . علقت مرة زيزي سكرتيرة المدرسة صاحبة اللسان السليط والقد الممشوق والشعر البندقي والنظارة الشمسية التي لا تلبسها ولكن تضعها أعلى الرأس : " إيه يا سما ده ؟ إنت رايحة السوق ؟ إيه اللي إنت لابساه ده ؟ بالتأكيد تعرف زيزي رأي سما فيها : " عايشة لي في الدور أم دبلوم دي " . مدام سما لها ميول ثقافية " عندي دوواين نزار قباني كلها . اجيبلك؟ ، وتتردد أحيانا مع زوجها على الأوبرا لحضور حفلات الموسيقى العربية . وتشتري الشرائط بعد الحفل ، ثم تتخلص منها بعد أيام من باب الكرم . عندى حتى الآن شريطان لصباح فخري ذكرى أيام النادي الفرنساوي.

                                                                         (7)

سما صاحبة شخصية تربوية قوية وحاسمة بامتياز ، عدد لا بأس به من البنات والبنين يستشيرونها في أمورهم الهامة ، تؤمن إيمانا ما بأهمية لغة الحوار " العيال دي أنضج مننا ألف مرة " ، هوايتها هذه سببت لها العديد من المشاكل إلا أنها دائما تتجاوزها بيسر لشخصيتها المميزة كمدرسة وتمكنها من مادتها ، وأيضا لإ تقانها أداء دورها كنجمة وواحدة من الأسرة البشرية ، والتمثيل هنا لا علاقة له بالزيف بقدر ما له علاقة بالخبرة ، أو موهبة الأداء الصحيح لما تريد أن تكونه في هذه اللحظة أو تلك .

مدام سما عظيمة التردد في أمور عادية ، خذ مثلا : عندما تبدأ في إرسال الدادة لشراء الفطار : آكل جاتوه شيكولاته ولا كريمة ؟ تبدو متحيرة فعلا وناقمة ؛ فلا أحد يقدر هذه الحيرة الإنسانية ، أو أشرب شاي ولا نسكافيه ؟ نوع من الصداع الفرنساوي اعتدنا عليه ، فأصبحنا لا نعيرها أي اهتمام ، وتتولى هي السؤال والجواب .لكنني للأمانة أشهد أنها تحتار فعلا .

                                                                      (8)

مستر عبد العزيز زميلي في قسم اللغة العربية ، و زميلي في النادي الفرنساوي عندما تنتهي سما من عملها تمر عليه في القسم :" يالله يا عبد العزيز "، فيرد بعجرفة مصطنعة : ماشي اسبقي انتي ثم يمسك بقلمه ، ويضرب عدة ضربات على مكتبه لا تخلو من توتر ، وأيضا بها تمثيل ، ثم ينهمك في أي شيء أمامه . وبعد ثوان طويلة يتبعها . العلاقة بينهما ليست مفهومة . أبناء عبد العزيز معنا في القسم الابتدائي ، في الفسحة يمران عليها فتقبلهما وتعطيهما المعلوم الروتيني شكولاتة وشيبسي ، ثم باي باي . عمرو وهبة في الغالب يحبانها جدا . هي لم تنجب ، ولكنها أم بجدارة شكلا وموضوعا .

عندما أصيب مستر عبد العزيز بأزمة قلبية نقل على أثرها إلى العناية المركزة باتت معه ثلاث ليالٍ إلى جانب زوجته وجانبه . عندما وصلنا كوفد مدرسي لزيارة المستر فعلقنا : الحمد الله كويس ، عقبت سما والارتياح يغمر وجهها المرهق : كويس قوي قوي قوي ، إحنا كنا فين ، ماشوفتوش امبارح ولا أول امبارح . زيزي كانت رفيقتنا في هذه الرحلة ظلت تردد بغنج وهي تتبختر على سلم المستشفى : " إحنا كنا فين . إحنا كنا فين " . ثم تشهر سبابتيها وتباعد بينهما وتقرب " .ما شوفتوش امبارح ماشوفتوووش ".

عبد العزيز قلب الأسد . هذه تسمية دفعة قديمة من دفع المدرسة . يشرح طوال الحصة بذمة تحتاج إلى توضيح ، ويراجع ما يشرحه في الحصة التالية ، يمر على الطلاب والطالبات ، ويا ويله من لا يعرف جواب سؤاله؟ يمسك بعصا طويلة طوال الوقت ، إلا أنه لا يستخدمها في الضرب ، هي أشبه بصولجان لزوم الهيبة فقط ، أما الضرب فباليد وبالشلوت. من أسئلته الأثيرة في قصة وا إسلاماه : الشيخ سلامة امبارح لما كان بيهرّب الواد محمود والبت جهاد من التتار وبيّتهم في الكهف ، ربط الحمار بتاعه فين ؟ الفصل بالكامل ولاد وبنات يقف بإشارة من يده ، ويستمر واقفا بإشارة أخرى ، وفي النهاية بعض البنات يبكين في انتظار العقاب الذي هو أمر من العقاب ، إلا أنه يفاجئهم هذه المرة بعفو عام : اقعد ياحمار منك له ليها.

مستر عبد العزيز محبوب من سائر الطلاب إلا القليل ، له طريقة مخصوصة في الشرح : الضمير بعد إن هو اسمها يا دهوف منك له ، لما تلاقي إن أو أخواتها تحط إيدك عليها وتحسِّس ، أول حاجة تقابلك دا اسمها - ضمير نصب وتعربه : ضمير مبني في محل نصب اسم إن. بكره ها اسأل فيه ويا ويله اللي.. با قلكو كتير ما تروقتوش – عندما سألته إحدى الطالبات وهو يشرح مشهدا من مصرع كليوباترا : يا مستر مكتوب في كتاب الأضواء إن كليوباترا كان عندها أولاد من يوليوس قيصر ، همّا كانوا متجوزين يا مستر ؟ يرد : إنتِ قاعدة نايمة ؟ أمال إحنا بنقول إيه م الصبح يا حاجة ... دي كانت صايعة يا ماما. يكره بعض الدروس وكراهيته لها تتجدد سنويا : ودائما هذه الدروس تُنعت بـ رزل أو سئيل ، لذا فعبارته الأثيرة في أواخر كل عام : " النسب " ده رزل رزالة .

وألقى علينا محاضرة طويلة عندما استجابت الوزارة لأوجاعه وألغت الدرس نهائيا ، قال : أهو دا غباء وعك ؛ كده بيلغوصوا في المنهج ، يتخفف شوية ماشي ، بس ما يتلغيش. من النصوص التي يكرهها : أراك عصي الدمع لأبي فراس : دا نص أهبل وسئيل في نفس الوقت ، المدرس ما يعرفش يقول فيه كلمتين ، والنبي اللي بيسوقوا في الوزارة دول عايزين إيه ؟ فيه نص يفضل يتدرس 20 ولا 30 سنة . ما خلاص خلصنا .

                                                                     (9)


ذوق سما في الملابس ردئ للغاية ، إلا أنها ذات ذوق دقيق عندما تقيم ملابس الآخرين ، وهو تقييم ينم عن ذوق رفيع فعلا . تبدو سما متيسرة ماليا متعثرة نفسيا ، ولن تدخر شيئا ، ولن تقصر في سبيل زجر الهم عن نفسها .الحقيقة أنها من أسرة متوسطة ، ولكن أدواتها أو (عدتها ) ارستقرطية ، تجيد استخدامها بمهارة . الفلوس والحساب الشخصي بالبنك يشعرها بقوة ونفوذ لا تخفيه بتاتا ، فمن آن إلى آخر تعلن : أنا رايحة البنك هنا في تريوموف نص ساعة محدش يروح . بالتأكيد سينصرف الناس جميعا وهي تعرف ، ولكنها لا تتنازل عن " ما حدش يروح" هذه أبدا ، فالكلمات المقصودة ليست هي المهمة فقط . لن تغضب عندما تعود ، ولا تجد أحدا ، ولم ولن تعاتبنا ، بمناسبة العتاب أكثر ما يستحق العتاب واللوم عندها الغياب ، ليس الغياب عن المدرسة ، بل عن النادي ، لا تنفعل ، بعبارات أقل من العادية تسأل عن سبب الغياب ، وهل يرجع إلى إنك " إنسان ما بيضمرش فيه" ، تقولها وتسحبها في نفس اللحظة بابتسامة أو دعابة ، وإذا شعرت أنها لم تُمحَ تعتذر صراحة .

أحيانا كنت أشعر بملل حقيقي ، وأكتفي بصباح الخير من خارج الغرفة ، فترد صباح ما صباحش ليه ؟ بابتسامة وطولة بال ، في الغالب تعتبرنا سما زملاء في قطار لا أكثر ، علاقاتها غير قابلة للتطوير من أي نوع ، ستزورك في بيتك وتحرص على مواساتك إذا أصابك مكروه . وقد تعزم المدرسة بالكامل على حاجة ساقعة إذا رزقك الله بمولود . إلا أنها أساسا تقضي وقتا وتحارب فراغا ، وأي شي آخر يعتبر ( شيء لزوم الشيء.)


سما – نستطيع أن نقول دون تجاوز - متكلمة ، طلقة اللسان ، من زوايا مختلفة ، تراها أما حنونا حازمة مع بعض المترددين على مكتبها من الطلاب والطالبات ، وغالبا ما تختتم كلامها بأداء تمثيلي رائع وحنون : " مش عايزة اتكلم في الموضوع تاني ، وياريت نكون بنفهم ونقدر، ونبقى قد المسئولية " ، ثم تشير بيد واحدة مفتوحة : " اتفضلوا يا شباب " ، فينصرفون دون تعليق . سواء عرفت ما دار في متن الحديث أو لم تعرف ، تشعر أن سما لم تقل سوى ذلك ، الخاتمة السحرية أهم مايميزها ، أضف إلى ذلك شكل الكلام وتلاوته لا مضمونه . طريقة تقطيع الجمل المصاحَب باللفتات الحانية ، حركة يديها بضم الكفين او تباعدهما أو الدوائر التي ترسمها في الهواء 0 ديكوباج تم تحميله في أم رأسها عبر سنوات ، يُعظِّم من الأداء ، ويجسد المشهد ، ويوحي للنظارة الصغار بخطورة الأمر . مشهد ختامي يَجُبُّ ما قيل قبله ، أو بالأحرى مالم يُقل .


وقد تبدو متدينة على نحو متطرف ، ترص الكلام رصا مدعوما بما تحفظ من آيات قرآنية وأحاديث نبوية ، تجعل محاوريها حيرى ، أو في حيص بيص من غزارة الشواهد التي تتلوها ، وتحرص على استباق سامعيها ؛ فتحرمهم من فرصة الرد كأن تقول : " يعني أنا مثلا اُعْتَبر بعيدة جدا عن الدين ، كلنا بعيد ، يا جماعة المتدين اللي بجد حاجة تانية . الدين واسع وكبير جدا .

بنفس الحماسة ، والتسلط الطوعي ، قد تتحدث عن المكياج ، أو عن عبد الحليم وأم كلثوم ، أو عن قواعد اللغة الفرنسية ، أو عن فطيرة التفاح . وهنا يجب أن يقال إن ما يُسكت السامعين ليس فقط منطقها القوي ، بل كرمها وخصالها المميزة ؛ فهي حبوبة وطيبة وصاحبة واجب ، والأهم أن كل ماتصدره من أحكام غير ملزم بالمرة لغيرها ، ومن قبل لها ؛ فنشوتها التي يراها القاصي والداني بعد كل حلقة نقاشية تشارك فيها رفعـة ً للروح المعنوية لا أكثر. روحها المعنوية ترتفع على الملأ ، وبشهادة الشهود.

                                                                          (10)

الحـكـاية بسـيـطـة . هذه جملة عم محمد حفظي التي يبدأ بها ، هي فاتحة كلامه وفاتحة كتابه ، يرميها فتمنحه القوة والهمة وتحلل عقدة من لسانه ، قد تكون مقدمة لرده على معضلة نحوية ، أو رأي سياسي ، أو مشورة في أمر من أمور الحياة الدنيا ، لا يهم ، يبدأ قائلا : الحكاية بسيطة .. ثم يتجلى بما يفتح به الفتّاح . هل هي حكمة شعره الأبيض الذي مازال حافظا لمركزه ؟ في الحقيقة يصعب تفسير همة عم محمد بطول الأيام التي عاشها ، أو بالطبول التي دقت ، ومازالت تدق على الرأس . أظن أنها تعود إلى تفاؤله – تفاؤل عم محمد " تفاؤل - تركيب " ، لا معرفة لنسبه ولا سبيل إلى تصنيعه على مجال واسع ، تفاؤله على قده فقط . كثيرون من يرونه صنيعة أيام ولت ، درويشا يتطوح طربا على قارعة الطريق بلا طبول ، ولا أناشيد تقوّم الروح وتطرد الأغيار . كيف له أن يرقص طربا في حضور الأغيار شخصيا . الحكاية بسيطة كيف ؟ وبأمارة ماذا ؟ .

التفاؤل الذي يجاور عم محمد يراه مجالسوه الهطل ذاته ، أو الطيبة التي زادت وفاضت حتى هطلت عليه ، فحسبها ماء السماء . أقول تقريبا التفاؤل الذي نسي عم محمد كيف ركَّبه أول مرة ، ولم يعد هناك دليل عليه سوى نجاحه هو شخصيا وشفائه من أمراض الدنيا .هذا النجاح وهذا الشفاء الذي لا يدركه سواه . أقول تقريبا التفاؤل الذي يلازم عم محمد هو الرضا .هل قنع بما رُزق ؟ وما الذي رزق ؟ المشكلة أن عددا لا بأس به يرى أن ما فيه عم محمد لا يرضي أحدا . لكنه راض ، هذه حقيقة لا تخطئها عين محبة أو ساخرة .


الأستاذ حفظي وسامة قديمة ، طلة مميزة ولها أشكال : طيبة وحنان غالبا ، وأحيانا غرور يصاحب بتكشيرة يدعمها ارتفاع حاجب واحد فقط . شعره الفضي الناعم أهم وآخر ما تبقى ، في جيبه الخلفي يضع مشطا ، يشهره فجأة ، ثم يمشي به على شعره الحرير ، في أوقات الغضب كذلك في أوقات التجلي تتدلى خصلة اوخصلتان على جبهته ؛ فترى شبابه على مقربة . كان شديد الإعجاب بـ "سها " ؛ يحب أن يسمع منها ما هو عادي بالنسبة لها ، وساحر وفظيع بالنسبة له ؛ يستعذب طريقتها في نطق كلمة : مِسْتِر ( كل الحروف مرققة ) ، يكفي أن تنطقها فقط ؛ ليعقب كأنها قدمت له معروفا : الله يفتح عليك ياسها . في أيام حصص الخط نادى عليها مرة مشيرا إلى كرسي بجانبه " تعالي هنا يابنت ؟" " أيوه ياعم حفظي " ، " وريني عملت إيه في واجب الخط ؟" . ينظر إلى كراستها ، ثم يخاطبنا جميعا : تعرفوا إن شخصية الواحد بتبان من خطه ؟ ترفع سما رأسها وتوزع نظرة على الجميع قبل أن تستقر بذات النظرة على عم حفظي ، يتابع الأستاذ متفحصا كراسة سها : إنت يا بنتي شخصيتك صافية جدا جدا من جوه ، بصي معايا ويشير إلى منحنيات في الخط : شخصيتك لطيفة وبتحبى العزلة بس مش منطوية ، ثم يدير الكراسة كمن يقرأ فنجانا ويتابع : ..ومسالمة قوي ما تحبيش المشاكل… بس ده مش معناه إن انتي بتسيبي حقك ، عدة خصلات فضية تنسدل على جبهة عم حفظي التي باتت لامعة وشابة … ينتبه فجاة فيضيف : حد تاني عايز يقرا خطه ، هاتي كراستك يا سما ، ترد سما بمنتهى السرعة : لاااا. طب تعالى أنت يا عبد العزيز ، عبد العزيز باقتضاب : شكرا يا مستر ، فيعقب متندرا " مصطر" اتعلموها بقى .. هاتي ياسما هاتي ، فترد غاضبة : لا انا عارفة خطي كويس وعارفة شخصيتي.

شخصية سما الكامنة أو التي تستحقها ، والتي سُلبت منها منذ البداية ، فيها كثير من سها إضافة إلى بعض التعديلات التي تجعل من سها مجرد وصيفة . سما: رشيقة صاحبة جمال نادر- جمال القطعة الواحدة ، لا ترتدي سوى الجينز ، علبة سجائرها الميريت الأزرق لا تفارقها ، شعرها القصير الأصفر بطبيعته ، تنزل منه خصلات تزيحها برفق ؛ لتستمر في الكلام ، وتعود الخصلات تتدلى ؛ فتزيحها بكل هدوء ، وهكذا ، متواضعة رغم هذا كله ، إلا في الأماكن المغلقة – النادي الفرنساوي خصوصا ، لديها من الحياء و الكياسة ما يجعلها تحسن التصرف والإدارة لسائر أسلحتها الأنثوية . هذه هي مشكلة سما الأساسية تتصرف وفق جسد آخر ، لا علاقة له البتة بجسمها الضخم المترهل ، وملابسها غير الملونة كما يجب ، وروحها المرحة التي تستدعي تعديلا جذريا في كافة الأبعاد الخاصة بها . علاقتها بـ " سها " على كف عفريت ؛ فأحيانا تدللها وتتغزل في جمالها ، وتثني على ذوقها في الملابس الذي يحمل دائما مفاجآت سارة ، تفعل ذلك باعتبار أن سها تشاركها نفس "الاستايل "! ، وفي أحيان أخرى تبدو سها العمل الأسود لسما ، وإلا فما الذي أتى بهذه التحفة الفنية إلى صميم النادي الذي أسسته سما بالجهد والعرق ، بالدلال والكرم ؟ ما الذي أتى بـ سها التي تشارك سما نفس الغرفة و الطعام والشراب والإغ الفرنسية ؟ جسد سها الحي بالفعل يقول : وما نيل المطالب بالتمني .




                                                                 (11)

سألتقي أسامة بعد فترة طويلة على إحدى قهاوي ميدان الجامع ، يرتدي بدلة كاملة كعهده ويبادرني بالسؤال :
- ما طلعتش إعارة؟
- - لا والله
- ليه يا راجل ؟ أنا لسه راجع الصيف ده
- - حمد الله ع السلامة
- الله يسلمك .. بس الواحد راجع مش عايز يشتغل .المهنة بقت صعبة قوي بافكر ارجع البلد تاني ، انا بنيت هناك . الواحد يقضي اليومين اللي فاضلين له.

صعقتنى هذا الجملة ، بالتأكيد هذا سوء تعبير منه ، إنه يقول كما يقول الناس ، إذ إن ما تبقي لي وله كان بالتأكيد أكثر من ذلك بكثير .

- ثم يتابع : القاهرة بقت مش هيه . ودون سابق إنذار : عارف يامستر أنا جايب معاي من السعودية كام بطانية ؟ علق إجابته ثواني من باب التشويق ، وربما لملاحظته شرودي. ثم أعلنها صريحة : خمسين بطانية.. أي والله .

                                                                   (12)

العلاقة بين سما وعبد العزيز ليست بسيطة ، لخصها مستر أسامة ذات يوم :" بتحبه يا بيه ." إلا أن عبد العزيز لا يعرف الحب ، أعني لا يهتم بمثل هذه المسائل ، ويعتبرها طبقا لتعبيره " مُحْن " ، لا يجلس معنا على القهوة إلا نادرا ، نحن فقط أعضاء النادي لا نعرف ، اكتشفنا بعد ذلك أن المدرسة بالكامل تعرف سره ، وخط سيره.

بعد أعوام طويلة قابلت عبد العزيز ، أخبرني أنه عائد من أيام من العمرة ، هنأته ، وأخرج من جيبه سِبحة ، " حاجة بسيطة من عند النبي " ، سألته بشيء من الحرج عن مدام سما ، أخبارها إيه لسه موجودة في المدرسة ؟ قال : يا راجل ….بقى لها سنين سابت المدرسة ، زاد حرجي ، ثم أردف : والله هي كويسة دلوقت ، اليومين اللي فاته ماكانتش قوي ، قعدِت تلاتاشر يوم في المستشفى. بس دلوقت الحمد لله ، ومع ذلك جت المطار ووصلتني ، بتسأل عليك دايما والله . ذهب حرجي . ويبدو أنه لاحظ فزاد : سما دي دفعتي ، أنت عارف كده ولا لأ ؟ أمال أحنا بنحب بعض ليه ؟ ، ثم أخرج تليفونه المحمول ، وأخذ منى الموبايل وسجل الرقمين .

على الفور ، بعد ثلاثة أيام ، جاءني صوتها عبر الهاتف : ازيك إنت لسه عايش ؟ خلاص مفيش أصل ؟ والله دايما على بالي ، إنت فين وأخبارك إيه ؟ لسه زيزو مكلمني (زيزو إزاي ؟ ) ، هواللي اداني التيفون ، أنا قلت اطمن عليك بس ، والله من أول امبارح وانا عايز أكلمك ، بس البت هبة مطلعة البلا على جتتي ( هبة مين؟) ، يا سيدي مش هبة بنت عبد العزيز جايلها صيدلة وراسها وألف جزمة تخش آداب ، فين بقى لما اتكرمت ووافقت . مخها صرمة قديمة ما هي تربيتى . كانت تتكلم بشكل متواصل ومنظم وسريع كمترجمة فورية محترفة ، ما حصّلته من ترجمتها لم يشف غليلي ، رغم أن الأداء كان رائعا وممسكا بالتلابيب . لم أنجح في اقتناص أي سكتة ، أو توان؛ لأبادلها الحديث . شعرت بالاطمئنان عليها ، وبأن دوام الحال ليس من المحال ، واحترت ماذا أفعل بفضولي ، فضولي الذي تعاظم خلال الأيام القليلة الماضية .





right side

دوا نُقَط

  دَوا نُقَط - 1-   ما اسم   ذلك الدواء ؟    علبة صغيرة، داخلها زجاجة أصغر، الزجاجة بها قطَّارة، القطارة تنزل منها النقاط بمقدار. الدو...