هناك عربيات فول
تؤدي الغرض ، وأخرى أقل تُشد إليها الرحال.
من عشر سنوات تعرفت على عربية جديدة ، التحقت بها
في وصلتها المسائية . كان ثمة بنات وشباب ( زباين أفرنجي ) ينزلون من سياراتهم
في حماس ، يأتي أحد العاملين بالعربية بورقة
جرنان كبيرة . محييا ومقبِّلا الشاب القائد – مرشد هذه المجموعة ، الذي، في الغالب
، يريد أن يُري أصدقاءه رأي العين والفم أن
الرحلة تستحق . يلتقط الشاب المذكور صفحات الجريدة ( المَفْرَش المؤقت ) ويضعها
على كبوت السيارة ، وتبدأ أطباق الفول والسلطة والبصل والباذنجان والجبنة بالطماطم
وسائر المشهيات في النزول على التوالي . المشهيات قديما كانت محدودة : سلطة خضرا وبصل
وفلفل أخضر ، وكان الله بالسر عليما ، حتى البيض نفسه لم تشهده العربيات الأولى إلا
على استحياء.
فول عبد الله الواحاتي لا يُعلَى
عليه ، الأسطى محمد يأتي على الرائحة . في أيام الطفولة البعيدة
، يلوح عم محمد- كبيرالسائقين بمدرسة القلب المقدس - بقامته الفارعة ، بعد أن ينهي
رحلة الذهاب لأتوبيس المدرسة ، على مقربة من عربية عبد الله ، يركن سيارته
العالية بعد مناورات ، تشعرك بجلال مهمته في الحياة . طلبه معروف : فول بالزيت
الحار فقط ؛ مشهياته معه ، يأتي متهاديا (طريقة مشيته فيها شُبْهة غرور لا أعرف
مصدره ) في يد بصلة ، وفي اليد الأخرى حزمة
جرير قد غسلها لتوه ، يمشي نافضا الماء عنها ، منشطا حواسه للقاء العظيم . كان عبدالله
يعتبره من الزبائن المتعِبة ؛ فبعد أن ينهي
عم محمد نصف طبقه يطالب بالممنوع : "
رشة زيت يا عبد الله لو تسمح يعني ، ما هو
المفروض الطبق يبقى مِتموِّن صح من الأول
! " ، يلبي عبد الله نداءه مبتسما ، ثم يردف : " إنت حُمَّى ". يشعر
عبد الله – كأي بياع شاطر – بمسئولية تجاه زبائنه المستديمين ؛ لا يتواني عن تقديم
خدماته كما يجب ، لكنه يحرص من آن لآخرعلى تذكير أحدهم برزالته ؛ حتى لا تتفاقم .
ظريف تماما أن يكون مكان العمل
قريبا من عربية فول محترمة تفتح النفس ، ويا حبذا لو جاورتها قهوة على نفس
المستوى . إذا تعذر ذلك سنتشق الأرض ؛ لتخرج
منها نصبة شاي صغيرة قريبة من الأرض ، كراسيها أحجار .
الحاج منصور اللبان أيضا يدلي بدلوه . عم منصور
الآن في آخر محطاته – على القهوة التي يزودها
باللبن . رغم تقديرالمعلم منصورلفول عبد الله
، إلا أنه يبدأ لقمة الصباح كالتالي : يخرج من قسط اللبن الكبير الفارغ المستقر على عجلته طبقا صغيرا من الألومنيوم ، الطبق
في الأصل كان كفة ميزان إلا أن اتجاهها تغير . الطبق مغسول بعناية فائقة ، ومع ذلك يضعه تحت الحنفية ؛ ليراجع عليه ، ثم يمد الطبق
– دون كلام - إلى ابنه الصغير ، يمضي الابن
إلى عم محمود الشامي ( البقال ) بالطبق وبقطعة معدنية واحدة. يضع محمود الشامي
الطبق فارغا على الميزان ليسجل وزنه أولا ، ثم يصب الطحينة ، تتراجع الطحينة وتتقدم
إلى أن ينزل المُقنَّن منها. بعدها يضيف عم منصور باكو شطة بالكامل ، وباكو كمون ، ، يكمل الابن مشواره إلى عم عبد الله ( قول لُهْ حِلو مش حار، قول له لعمك منصور ).
عم منصور يقضي الفترة التي يتغيب
فيها ابنه ، وسط الحشود الملتفة حول عبد الله ، في عمل السلطة . المطوة قرن
الغزال تمر على الطماطم والخيار والخس والبصل . بوجه مبتهج صابر يعالج هذا كله ،
وعندما يكتمل الأمر يتراجع قليلا عن الطعام ،
كأنه ينتظر المدفع ، ثم "ياللا يا اخوانَّا .. ياللا يا اخوانا
" ، لن يبدأ إلا بعد أن ينجح في ضم
اثنين أو ثلاثة إلى مائدته .