الخميس، 24 يناير 2019

مع الكثرة المندسة

حكايات يناير

 1 -  مع الكثرة المندسة - شهادة

" ذهبت إلى شلال ، ولم أكن من قبل قد ذهبت إلى شلال ".
بهاء طاهر – قصة فرحة






هتف الرجل - مساء - في الشارع  الطويل الطويل  الخالي :
" يحيا شعب تونس ......تحيا تونس العظيمة .. تحيا الحرية ... المجد للشهداء ....يا توانسة ماعدِيش خوف... المجرم هرب .. المجرم هرب ...بن علي هرب ...."


     الجمعة  28 يناير2011 مسجد رابعة العدوية - مدينة نصر

       في أعقاب الصلاة خرج العشرات ، عشرينيون في الغالب وهناك ثلاثينيون وأربعنييون وأكبر . جزء من هذا الحشد المتواضع انحرف يمينا ؛ ليسير في طريق الأوتوستراد جهة سينما طيبة وميدان الساعة ، وحشد آخر أكبر انحرف يسارا في ذات الشارع جهة المنصة . اخترت الفريق الثاني الذي  يتجه ، طبقا للنية في السير ، نحو العباسية ، وربما رمسيس القريبة من التحرير . 

    في البداية كان جسم المظاهرة يضم ما يقرب من  200 و 300 متظاهر ومتظاهرة ، وعن اليمين وعن اليسار عشرات أخرى لا يريدون أن يحسبوا على المظاهرة  ، وإن كانوا ،  كما سيبدو ، متعاطفين تماما ، بعضهم يتمتم بالهتافات ، وهناك بعض آخر لا يهتف ، لكنه يرفع قبضته ، يؤدي الحركة الانفعالية المناسبة لكل هتاف ، وهناك من يتظاهر كاريوكي . إلى الأمام . البعض يختفي ليدخل في شارع جانبي أو في عمارة أو يتجه نحو سيارته المركونة . والبعض منهم انضم على مراحل بعد اختبار لجدية المظاهرة ، وربما لجديته هو . عبرت المظاهرة يوسف عباس جهة المنصة إلا أن الأمن بدأ يطلق القنابل المسيلة للدموع ، بدت هذه القنابل مختلفة كثيرا عن مثيلاتها في السنوات سابقة ، بدت أحد وأشرس ( ستبدو أخف بكثير بالنسبة لقنابل محمد محمود ، التي نادي المتظاهرون ساعتها بسخرية : الشعب يريد الغاز القديم !! ) . على الفور أخرج أحد المتظاهرين من حقيبة كان يعلقها على كتفه  عددا هائلا من الماسكات ، أخذت واحدا ، تراجعنا واتجهت المظاهرة -غصبا - يمينا في يوسف عباس الذي يسلم آخره إلى صلاح سالم ، تضاعف عدد المتظاهرين فجأة . هل أثرت فيهم نداءات " علي و علي وعلي الصوت اللي هينزل مش هايموت " أو انزل انزل " .؟ . كانت قوات الشرطة تهرول على الجانبين . وتطلق من آن لآخر عددا من القنابل ، لكن ثمة أصواتا تهتف بضعف قوي . " ما حدش يرجع - اثبت اثبت ". ظل هذا المشهد يتكرر . لمحت " لا تصميم " في أعين قيادات البوليس  التي تعطي الأوامر للجنود كأنهم لا يعرفون ماذا يصنعون ، استمر الزحف عالي الصوت " الشعب يريد إسقاط النظام "  يزلزل الأرض تحت أقدامنا . 


  
    لا وجود هنا للعربات المصفحة - للمواجهات العنيفة ، مظاهرات مدينة نصر – تقريبا - لم تكن من شواغل أولي البطش . وربما لم تكن في حسبان أهلها أنفسهم؛ إذ غادر بعض ساكنيها مبكرا؛ لينضموا لمناطق أخرى تصح منها المظاهرة  ، و بها جموع تفتح النفس.
  المظاهرات القديمة كان لها أول ولها آخر .كان لها مركز واحد وحيد : الأزهر – الجامعة – قرب السفارة الإسرائيلية – على سلالم نقابة الصحفيين  . الآن بوسعك ألا تذهب إلي المظاهرة ، أن تنتقي أقرب مظاهرة لبيتك ، أن تبدأ من نقطة قريبة أن تسير مع المظاهرة وبها ، هناك آخرون سيبدأون من أماكن أخرى ، واللقاء - إن نجح الأمر – سيكون في  التحرير .

      عند نهاية يوسف عباس كان الأمن قد اكتفى بحشد أعداد مهولة على يمين الطريق ، اليمين المفضي  إلى قصر العروبة ، فانحرف الجمع يسارا وتباطأ في مسيرته ؛ ليستحث أهالي عمارات العبور الذين يشكلون العَمار الوحيد في هذا المكان " يا أهالينا يا أهالينا ضموا ضموا علينا " عند النقطة التي يتقاطع فيها صلاح سالم مع امتداد رمسيس تعالت الأصوات :  الكوبري لأ.. لأ ، فانحرفنا يمينا إلى العباسية . عند لطفي السيد بالتحديد،  إلى جانب مسجد النور كانت هناك حامية صغيرة من الشرطة . ردد  المتظاهرون نداءهم الأثير " سلمية سلمية " . في الحقيقة كان الأجدر  بهذه الحامية أن تقول  هي : " سلمية سلمية " ، إذا ما قورنت بما سوف يحدث في رمسيس . الطريق كان بطبيعته منحدرا مما يتيح رؤية المظاهرة حتى آخرها ، كأنك تقف على ربوة عالية . كان المشهد مهيبا . لو كنت أعرف في العد نحن الآن لسنا مئات ، نحن ثلاثون أو أربعون ألفا ، وإن تساهلت قليلا  فمصر كلها هنا ، استمرت المظاهرة تزحف في الشارع الخالي من السيارات والمارة سوانا ، عن اليمين لا شيء سوي متروالأنفاق ، وعلى اليسار دوما عمارات يشاور منها أهالينا مؤيدين ، بعضهم يقدم زجاجات الماء ، وبعضهم استبارك من مجرد مرور المظاهرة أمام بيته . الأمن الذي قابلنا في الطريق من العباسية إلى رمسيس تنحى جانبا  . كان الطريق مفتوحا بطريقة غريبة ، غريبة بمعنى أنها  لا توحي قط – كما سنعرف آجلا -  بأن الأمن يطحن في أماكن أخرى" كوبري قصر النيل مثلا" ، ويدافع عن ميدان التحرير حتى الرمق الأخير أو حتى الهروب الكبير . ، ، غريبة لأن هذه الجموع بعددها هذا الآخذ في الازدياد تفرض شيئا ، تسير لا تنظر وراءها . نحن لسنا في جنازة عبد الناصر حتى نسير حزاني آمنين ، ولا نحن نهتف للمعلم حسن شحاتة . الشعب يريد إسقاط النظام . فعلا ؟  ، غريبة لأنها توحي – ضمن ما توحي - بأن الأمن لم يعد مشغولا بالأساس بفض المتظاهرين . كيف تفض شعبا؟! وإن كان في ذات الوقت سيستمْوِت حتى لا يُمسَّ ميدان التحرير







    المظاهرة تسير وتستجلب في طريقها غاضبين جددا ، بعضهم ينضم من بلكونته قبل أن ينزل . الجموع  تغوي ، الجموع  أمان لا حدود له  .الناس بالناس  .عند غمرة كانت الساعة قد تجاوزت الثالثة عصرا  بقليل، هنا شاهدنا عددا من الموتوسيكلات تسير في اتجاه رمسيس ثم تعود أدراجها . كان مشهدا لافتا ، الموتوسيكلات ... الموتوسيكلات حكاية : الموتوسيكلات في هذا اليوم كانت مريبة ! وأيضا في مساء 28 يناير أوفي فجر اليوم التالي كانت  تمثل اشباح الفزع ، نذر الانفلات : نزلنا مرتين باستدعاء من ميكرفون المسجد : كل الناس تنزل .. لم نجد شيئا ، قالوا "كان فيه موتوسيكلات وضربوا نار ومشيوا ". تكررت هذه الحوادث ودائما لا ترى شيئا تسمع عن موتوسيكلات . الموتوسيكلات كذلك هي المواصلة الحاضرة في الأوقات المتأخرة ، وهي من قبل الإسعاف الشعبي في محمود محمود ومجلس الوزراء . 

   في المسافة من غمرة إلى رمسيس مرورا بمستشفى القبطي ، ظهرت محال العصير ، تزاحم عليها الكثيرون  السائرون في هذا الماراثون ، بعض الناس أخذ يشترى عددا أكبر من المياه الغازية  وزجاجات المياه ويوزع بعضها على زملاء الرحلة ، بدأت هنا روح ميدان التحرير التي سيفسرها الإعلام الحكومي بتفسيرات تاريخية وبائسة معا  .

   في الميدان ( التحرير ) تخلت الهتافات شيئا فشيئا عن جهامتها وجديتها ، غادرت  المقامات القديمة ، أي مشارك يمكنه أن يرفع الهتاف الذي يواتيه .وهُوَّ ونصيبه ، أجمل الهتافات التي اختير ت ؛  كي ترضي نفسها ، تتخلق طبقا لمقاسات القائل ، غير خائفة من  ثوريين متخصصين ، يصادرون بحسن نية ثورية  الضعيف من الشعارات . في الميدان كان الرقص على الهتافات ، يلزم أن  تنتشي بما تقول وتسن روحك أمام رجل يواجه شهداء بالمئات بخطاب يليق بعيد العمال ، في الميدان تعزف الأكف بنشوة تخفف من الغيظ وتستبقيه . المشوار لسه طويل كما قال مواطن مصري ، " خلي عندك دم  ارحل بقى يا عم"    " ياللي ع الترعة حود ع المالح شعبك يا مبارك عمره ما هيسامح ...." " طب رجل الكرسي بتلعب ليه ؟.... رجل الكرسي بتلعب ليه ؟ .... من رخامة حسني عليه

    قبل أمتار من ميدان رمسيس وجدنا الأمن الذي لم نصادفه  كعهده - طوال الرحلة . غباوة في إطلاق القنابل بشكل عشوائي وسط المتظاهرين ثم العودة سريعا إلى نقطتهم الحصينة على مقربة من مسجد الفتح ، كان رمسيس نقطة التقاء لمظاهرة أخرى قال شبابها ورجالها أنهم آتون من الوايلية  . الجميع افترشوا الرصيف في أحد الشوارع الصغيرة  المفضية إلى شارع الفجالة ، بعيون ملتهبة مغسولة بالبيبسي تتشمم قطعا من البصل ألقى بها سكان العمارات المجاورة ، كذلك كان الخل حاضرا . الخل هو الحل . على أبواب الخامسة أو بعدها بقليل كانت النيران تشتعل .قالوا قسم الأزبكية . كان هناك آخرون في الضفة الأخرى نريد أن نلتحم معهم .

   ما سر هذه المظاهرات الصغيرة المتأخرة  في قلب الميدان ، مع الثالثة صباحا خمسة أفراد أو أكثر قليلايطوفون بمواطنين  ناموا بالفعل  وآخرين متعبين اكتفوا بما رددوه طوال اليوم ، وينتظرون الصبح القريب ليواصلوا ربما " خلي عندك دم بقى "
هذه مظاهرات لوجه الله ، تنفق طاقة تخص اليوم السابق لا معنى لبقائها أو هي تدريبات للروح الجديدة ، والدليل أن الهاتفين لا يرجون ازديادا  ، لا يحرضون من تعبوا واستعدوا للنوم ، هم  يفرحون كلما فاجأهم شعار جديد من صنع إيديهم  .

في حوالي الرابعة صباحا ثمة امرأة شعبية تعزم – بقلب - بساندويتشات فول وطعمية . المرأة لاحظتْ رجلا يجلس وحيدا  يغالب البكاء ، تقدمت لتعزم عليه بساندويتش ؛ فصدها  بكفه ، وبامتنان  شاكرا ، فتمتمت: ما لكش نفس ؟ هه ؟ ثم رفعت رأسها و سبابتيها إلى السماء : إلهي يسد نفسك يا بعيد زي ما سديت نفسنا "

    بعد تراجع من الجانبين  لدقائق يتبرع أحد المتظاهرين "يالله يا رجالة " ، فنلبي النداء لكن القنابل المجنونة تقابلنا ، كانت القنابل وهي آتية من البعيد تصطدم بأجساد البعض ، كنا نسمع أحيانا صوت إطلاقات مختلفة ، فيقول البعض: فيه ضرب نار ، وآخرون يقولون لا ده رصاص مطاطي . سيتضح فيما بعد أن الجنان كان رسميا .

    في إحدي الغزوات الأمنية  سقط في أرضنا  ثلاثة جنود من الأمن المركزي فاندفع متظاهر آخذا عصا أحد الجنود ودرعه ملوحا بهما ، وصرخ آخرون بتصميم لا رجعة فيه :"  ما حدش يقرب لهم ، دول تعبانين .. دول ما لهمش دعوة "  ، كان الجنود الثلاثة في حالة إعياء تام ، قال واحد : نوديهم مستشفى القبطي ، وقال آخر : أنا معايا  " فِسبة " ، ثانية واحدة ها جيبها ....
في مرة من المرات الكثيرة التي كان يستحث فيها البعض الجموع لتتقدم ، يالغرابة كان الطريق مفتوحا تماما . الراجل سيخطب بعد منتصف الليل  محذرا من الفوضى







موقعة الجمل – ما بعد وما قبل

      في يوم الأربعاء 2 فبراير ،  مساء يوم موقعة الجمل  أو بالتحديد فجر الخميس . في رحلة العودة كان الجيش أرحم بكثير من اللجان الشعبية . أصعب اللجان كانت في حسن المأمون على مقربة من النادي الأهلي ( مدينة نصر )  صنع رجال اللجان حواجز تأخذ شكل الزجزاج كأنك في اختبار مرور قاس . بعد أن تنجح في اجتياز كل هذه الحواجز وهم عن بُعد قريب ينظرون وينتظرون  أمام حاجز أخير مغلق ،سيفتح في حينه ؛ ليعاينوا رخصة سائق التاكسي ، وبطاقات الركاب ويسألون إنتوا مع بعض ؟  ولن ينتظروا الإجابة   . أحد الأحجار الكبيرة  التي تسد الحاجز الأخير زرعت فيها عصا طويلة في آخرها لافته مكتوب عليها " نعم لمبارك يا شعب أوساخ " .  شعرت أن هناك قوي خفية تستطيع أن تتعرف على الأوساخ بتوع التحرير بمجرد النظر .بعد التنحي أو التخلي ، أو.. .في يوم السبت الثاني عشر من فبراير  سأرى بعض هؤلاء الشباب في طليعة حركة واسعة تنظف حسن المأمون بهمة ويدهنون بالأبيض والأسود حواف الرصيف ، وبألوان العلم الثلاثة الأشجار وأعمدة الإنارة ، انضم إليهم صبيان و بنات . يوقفون السيارت المارة بأدب شديد مقدمين كيسا من البلاستيك وبعده " لو سمحت خليه معاك في العربية ... لو سمحت ما ترميش حاجة في الشارع "

   صباح يوم الأربعاء 2 فبراير ، بعد خطاب مبارك الذي سُمي " بالعاطفي " ، الذي بكى فيه جابر القرموطي و منى الشاذلي وعمرو أديب وسائر الإعلام المستقل عن الشعب ، والذي قال فيه إنه سيموت ويدفن هنا ، في الصباح أخذت الميكروباص من مدينة نصر أنا وزوجتي وابني تجاه قباء في أقاصي جسر السويس ، تحدث مواطن " بصراحة الراجل عمل اللي عليه " هم عايزين إيه عايزينها تخرب ، بدا وكأنه يريد أن يشاكل أي أحد  ، لا أحد يرد .عاد ليردد وقد اكتسب جرأة من يقف في وسط حارة ويردد مرارا وتكرارا :  يا حارة زبالة ..ما فيهاش راجل . إلا أن ربنا لم يكرمه ، فعلا صوته أكثر ، لم أعتد أن أتجاوب مع مثل هذه المناظرات التي يبدأ فيها المناظر بالشتم ، لكني وجدت نفسي بعد فترة أبادله شتما بشتم ، الوليمة كلها كانت على شرف مبارك هو يشتم ليحفظ للكبير مقامه  ، وأن أشتم بعصبية لن توصل لشيء ، ولكنها تخرج طاقة مكتومة معي منذ الأمس ، وكنت كشريكي المخالف ازعق كأني أبرئ ذمتي أو أقول كلمتي أمام التاريخ . التاريخ فقط . لم يتدخل أحد من الميكروباص ، كأننا رجل وزوجته يتشاحنان.. 

    أخذت ميكروباصا آخر متجها إلى رمسيس . في جسر السويس كانت ثمة توقفات محدودة ، كانت مظاهرات صغيرة تهتف لمبارك وتحمل صوره ، تكرر هذه المشهد كثيرا عند ميدان الألف مسكن وعند إشارة روكسي ، وقرب مسجد عبد الناصر ، لكنها تقريبا لا تستقطب أحدا ، قال الشاب الراكب بجانب السائق والذي داوم النظر إلى الخلف إلى الكنبات المليئة بالركاب ، قال الشاب عند العباسية " أظُن اللي يتكلم بعد كده يبقى يستحق القتل ، ثم أردف : العيال " الحِكَرية " اللي في التحرير دول عايزين إيه ؟ كان يتكلم ويستدير برأسه يرجو أو يتوسل مناقشا ؟ لا أحد  يرد . عندما وصلت إلى رمسيس مشيت  في شارع الجمهورية  ، ثم انحرفت يمينا ناويا على ساندوتشات من آخر ساعة ، ثم قهوة الفنون . كانت هناك مواكب من سيارات ملاكي ونصف نقل تهتف للزعيم الذي خطب بالأمس رافعة صوره ، ولافتات مكتوب عليها نعم لمبارك ، وكان بينهم أفراد من الشرطة ، كانت الساعة حوالي الثانية عشرة صباحا ، بعدها أخذت شارع طلعت حرب . في ميدان طلعت حرب كان فريق كبير يرفع صورا لمبارك ويهتف نعم نعم ، وهتافات أخرى  تلعن البرادعي العميل الأمريكي . 







  أنا أقلعت عن التدخين منذ شهرين . جاءتني الفكرة عند طلعت حرب : " ها شرب شيشة " استرحت للفكرة وكأنها اختراع ، فاتجهت إلى قهوة التكعيبة ، هناك مر شابان أحدهما يمتطي جملا والآخر فرسا ، مرددين من عل  " نعم لمبارك "

    بعد نصف ساعة أو أكثر قليلا اتصل بي صديقي انت فين ؟ لسه بتشرب شاي ؟! الدينا مقلوبة ، أخذ يتكلم بعصبية شديدة ، لم أسمع شيئا ، واتجهت نحوه ، في الطريق كان هناك هرج ومرج بعض الناس يفرون خارج الميدان  وآخرون يندفعون صوبه ، لم أر الجمال والخيول  إلا كأسرى في يد شباب الميدان ، وإلى جانب دبابات الجيش  ، كانت المواجهة قد انحصرت في الطوب . 


    طليعة الميدان  ( التي رأيت ) كانت تأخذ مكانا متقدما يتجاوز المتحف ليتقترب قليلا من عبد المنعم رياض . تطور الأمر بعد ذلك – كرات النار كانت تنهمر من العمارات المقابلة للمتحف ، زجاجات المولتوف تمر من أعلى الدبابة الملاصقة للمتحف ، عندما ازداد الخطر نزل  طاقم هذه الدبابة داخلها ، وأغلقوا بابها العلوي .
    قوات الجيش كانت تتحلى بأقصى درجات ضبط النفس  تجاه الفريقين! ، كانوا على مسافة واحدة من المؤيدين لمبارك والمناهضين له .الجيش بدا كمن يتحلقون حول ترابيزة دومنو أو بولة إستيمشن يشاهدون وينتظرون دورهم في اللعب  دون أن يفتحوا أفواههم بكلمة احتراما لحق المنافسة . لن يلعبوا صراحة إلا بعد عشرة أيام من هذا اليوم .
في استراحة مسائية خارج الميدان كان تليفزيون قهوة البورصة على المحطة الرسمية يتحدث عن الأصابع و الأجندات الخارجية وعن الشباب المغيب في ميدان التحرير الذي يريد لشعب بحاله أن يمشي في الترهات. 



الجموع 

   الجموع تخرج من كتب التاريخ، من الروايات ، من الأفلام القديمة، من أفلام لم تكتب بعد ،  تسير مدفوعة على مسئوليتها الشخصية ، دون نهاية معروفة ، كيف تُقرأ البدايات ؟ وكيف تسير ؟ أنت لا تشاهد ، أنت تسير ، أنت لا ترى ، هل هناك من يرى ؟ ما الفرق بين هذا وبين ما حدث مرارا وتكرارا ؛ من أجل فلسطين أو كرامة لـ(الحق )؟
   في أيام حرب العراق اقترح – في سرية - أحد السياسين المحنكين أن نلتقي بعد صلاة الظهر عند جامع السلطان أبو العلا- نلتقي فرادى ، ونهاية الصلاة تكون بمثابة ساعة الصفر ، نخرج من على المقاهي ونصير جمعا فجأة ، وبالتأكيد سينضم إلينا جموع ، قال نحن سنفاجئ الجميع  ، وسننتهي من عمليتنا قبل وصول الشرطة ، نتبخر من المكان وسنعاود الظهور في أيام وأماكن أخرى بذات الطريقة . بعد حوالي نصف ساعة من النداءات المنددة بالحرب على العراق ( لم ينضم إلينا أحد ) .نادى المنادي بالانصراف . " لا تنسوا .على موعد  ". لم نجتمع مرة أخرى .

    في ظهيرة 28 يناير ، في مجتمع الشارع السائر إلى ... إلى ماذا ؟ ، لا مجال للعقل ، أنت تسير . لا تفكر الآن ، المناقشات الصغيرة العابرة . استراحات المحاربين ، غالبا لم تكن سياسية ، كانت ودية ، وإن شئت مصرية ، تشبه لحد كبير ، التعارف العابر ، كالتعارف – أثناء الانتظار الطويل - أمام أسانسيرات مجمع التحرير ، أو في قطار الدرجة الثالثة في رحلة أبعد من أسوان .تتغير الوجوه ، ولا تتغير ألفتها ، هناك من يختفون ليستريحوا قليلا  على الرصيف مع زجاجة ماء ،متخففين من الكمامات ، وهناك من غابوا لأنهم عثروا على صديق قديم ، فنادوا باسمه فرحين ، الصداقات العابرة لها طعم ، وثمة طعم أيضا للزملاء أو الجيران أو الأصدقاء الذين تلتقيهم صدفة في ذلك البلد الجديد ، الناس في هذه الموطن أطيب ، أكثر مرحا . السخرية لا تفنى ، السخرية روح ، أنت الآن تستجيب للغة الوجوه ، لميل الأرواح . ثمة فتيات جميلات في الجمع ، وجوههن أخذت سمت الجدية والصرامة والتصميم والتشديد في النداء " يسقط يسقط حسني مبارك " . الجدية والصرامة كلما توغلت واستنهضت بأسا ليس في الحسبان  سربت إلى الجموع حنانا ،  الحنان \ الرقة ليست في الكلام ، ليست مهارة من المهارات . الرقة في حصن حصين . الحصن الحصين – حاليا - مفتوح على مصراعيه .

    الجموع واحد . الجموع ليست واحدا ، في رمسيس كانت المواجهة الأولى التي تصادفها مظاهراتنا بعد سير أكثر من ثلاث ساعات ، هنا  سينجلي الفارق بين المتظاهرين . لم أكن في الصفوف الأولى . الجسارة \المسئولية  عندما تتوزع على الألوف المؤلفة تتفتت وأحيانا تتكاثر ، يرضى كل  بنصيبه ويحسبه النصيب الأكبر ، في الصفوف الأولى هناك من هم خارج الحسبة  ، لا يقاربون نصيبك بتاتا ، مشكلتهم  الأساسية مع كتلة الجسارة الافتراضية  ،  يقفون على حرفٍ ،  يفاوضون الموت على العبور إلى الناحية البعيدة ، ينحتون أنصبة جديدة  من الجسارة ، يضاعفونها في لحظات ؛ فيزداد نصيبك تلقائيا  ، تضيء الوجوه وتسير غير عابئة ، والله المستعان.

ساعات الحظر

     الشوارع الخالية  في عز الضهر لها إحساس مختلف ، ليست  كأيام الأجازات ، ولا كأيام الأعياد في الأحياء الجديدة التي  يهجرها ساكنوها  ليعيِّدوا في ذات الأماكن التي تربوا فيها  ، الشوارع الفارغة في عز الضهر تشرح الصمت ، تهبه ثقلا و خفة في آن  . ذكرى بعيدة تخطر :  أيام الحظر في 18 و19 يناير 1977 ، أستجليها بمجهود شاق ، لم أكن جزءا منها ، لكني رأيت ما رأيت . ما يحدث لا يشبه . في 1977 صمت الشوارع لم يكن عاطفيا ، لم يكن ينذر بمجهول يستدنيه البعض بالهتافات والأغاني ، وبفطرة تحتاج وقتا أطول للفهم .

   أتحدث عن اليوم المؤطَّر في 77 ، عن ساعات الحظر  ، الناس تعود إلى بيوتها في مواعيد معلومة كل يوم ، فقط . لم يخرج القلب بعيدا ، ليفرح ويغيظ ويتنطط في الميادين العامة غير عابئ بشيء ،  ليجرب الحياة بعيدا \ أو ليَفزَع  ويُفزِع ويظل ساهرا جوار البيت والسيارة ، يتشمم رائحة المجهولين الذين  أوشكوا أن يمدوا أياديهم الطويلة لينالوا من تعب السنين . 

   في 77 لم يستغنِ ( الشعب ) ، لم يستغن عن بعض ناسه ، لم يُتَح له أن يتباهى ويستشعر الفخر عن بعد . لم يضحِ ، لم يضح  بجزء يصب عليه لعناته ، ويحمِّله مسئولية التصرف في عظائم الأمور بكل هذه الخفة . الشعب المقيم في الميادين في انتظار الموت أو اليأس هو روح هذا البلد \ وهو عاره الذي يعطل المراكب التي كانت سائرة . 


     ساعات الحظر في 77 كانت صارمة ، لم تكن رخوة كأيامنا هذه ،  الحظر هنا إلى حد كبير صوري ، من يقوم على تنفيذه في حيرة من أمره ، المحظورون كثرة ، يسيرون في شوارع القاهرة يلقون السلام على الحاظرين ، إيد واحدة ! ، الميكروباصات تسير في ندرة لكنها تسير . في مرة من المرات كانت المواصلات كالتالي : موتوسيكل من رمسيس إلى العباسية ، ثم عربة نصف نقل إلى الحي السابع ، ثم تاكسي إلى أعماق مدينة نصر.

    في 77 أظن : ظل القلب داخل الجدران ليعيرها ، ليستنهضها ؛ فصار ذكرى ،  نعم ذكرى ملهمة ، لكنه صار تاريخا في وقت قياسي . نحن هنا أمام قلوب كافرة ، منها من يستعجل النهاية ؛ لأن الوقت تأخر جدا ! ومنها من يتحسس– بوسائل غاية في الإنسانية  -- أن الكفر طريق مفتوح سيفضى لا شك ، الكفر حق ، لا لشيء إلا أنه لم يأخذ فرصته . أعطوه الفرصة يا أولاد الحلال والحرام  . لا تستعجلوا  ، وإلا سيموت اليقين على قارعة الطريق.

أنا الشعب أنا الشعب

    الثورة حالة عاطفية ، رومانسية بامتياز ، تُعدي ، إلا أنها طارئة ، بعض الناس الذين لانت قلوبهم وتظاهروا فعليا أو أمام شاشات التليفزيون ، أو في مظاهرات متخيلة خاضوها بكل عزم وهمة في بيوتهم أوعلى المقاهي  . هؤلاء لهم اشتراطات قاسية ، وبطبيعتهم يحبون التعريفات . التعريفات حدود وإن بالقوة . يرمون بأسئلتهم الوجودية على الملأ : يعني إيه  ثورة ؟ هو إيه المطلوب بالظبط . أسئلتهم لا تترك في الفضاء ليتبادلها الشركاء ، لتنال قسطا من   السخونة ، من الرجاء ، لا تترك الأسئلة لتستريح ، لتستقل ، لترى صالحها . هم لا يسألون بالذات ، هم يفتحون الجروح على مصاريعها بهوس  يحسبونه جسارة ، بهلع يظنونه مسئولية .بعض هذا البعض – وهو كثير – لا يستريح بتاتا لغياب النهايات ، ولذا فهو يتلقف النهايات المصطنعة بتفهم كبير ! " كفاية كده " " المطلوب إسقاط النظام لا الدولة " ، مع الوقت - وطبقا لنظام عمل هذا البرنامج ، بعض بعض هذا البعض- وهو كثير أيضا - ، يتفعَّل عنده التسامح بلا أمارات . حين تغيب أسباب الرأفة والأخلاق والأدب والاعتدال والنظرة الصائبة  ومصلحة البلاد وما شابه ، عندما تغيب هذه الرواسي تُخترع. تخترع على النواصي وفي المقاهي الآمنة وأمام شاشات التليفزيون وفي الميكروباصات ، ويأتيها الباطل من بين أيديها ومن خلفها ومن كل صوب  .

       حين تغادر الميدان وتتجول مختارا بين المقاهي ، بين الأهالي ، بين الجيران ، بين الباعة ، حين تتجول لتجرب دفئا أصابك من ناس الميدان ، ترى الحقيقة كطفل تائه ، يمشي  بلا  هادٍ  لكنه يسير . السير نفسه هو الفكرة. طفولته تحميه من القراءة . كل القراءات خاطئة وتافهة ويُظنُّ بها الظنون. الذين يقرأون ناهيك عمن يئولون  ...سحقا لهم ! كيف تقرأ إبان نصوص تنسخ كل لحظة ؟ كيف تقرأ دون علم راسخ بـ الناسخ والمنسوخ؟ .علم الناسخ والمنسوخ في الثورات عصي على التعلم ، ينضج على نار بعيدة ...لا ...على نار متقطِّعة ، نار لها متطلبات  . ما متطلباتها ؟ يجدر بك أن تنخرط بإخلاص نادر في صياغة ما تدرك بالقلب وبحواس أخر( قيد الصنع )  أنه لا محالة ذاهب . تفادي هذا بأن تسحضر الناسخ والمنسوخ في نفس واحد هو العته أو هو الطفولة التي لا تشبه الطفولة . هو كمن عقد العزم على الغرام ،على سوء الفهم ،على تصعيد الرغبة الجنسية ، على الكذب ، على التفاني ، على الألم ، على مجالسة الأماني  بذات الإشارات - بذات أم الإشارات .إنه يبثون ويستقبلون ، وكأنهم يبثون ويستقبلون.

    ماتلتقطه العيون عرضا من برامج " التوك شو " – استديوهات تحليل الثورة- مدمر مدمر . أتكلم عن القنوات " المستقلة " . إيه الناس دي ؟ 

     " لاأفهم " . أكثر العبارات قاطبة جلالا . في هذه الأزقة التي تسير فيها مجبورا و مختارا مع الجموع . الأزقة التي تم ترسيمها لأجل مسمى ، والأزقة المهجورة إلى حين ، والأزقة التي تفضي إلى ...، إلى ماذا ؟  الغيظ شعور نبيل ، الحسرة والأسى والتباكي على ما كان لهم رجالهم المخلصون . رجال لا يكلون ، ، اليأس عندهم له آليات غاية في الأمل !  ... ليس هذا ما أريد الوصول إليه  .

     الرومانسية  لا تستطيع مع البعض صبرا ، القلوب أنواع ، بعضها يُرى ، وبعضها لا يُرى ، وبعضها  ما يعلم بيه إلا ربنا  . هواء الميدان سيدوم ، ولن يدوم ، لن يستمر العاشقان في قبلة – مهما كان سحرها – أبد الدهر  .الحماسة حماسات ، السعادة سعادات ، الانتشاء ضروب ، أصعبه ليس الأول . 

     العاطفة تفسد بالكلام  ، الكلام يُبعد ما كان دانيا ، الشعارات الناجزة إذ تستميل تقفز في الهواء ، تقفز بخطر أصحابها ، تتعطل لغة الكلام ، إلا أن الكلام آت لا ريب ، هل هناك زمن اصطلاحي إذا غاب فيه الكلام ، سيعود - آجلا - إلى غير سيرته الأولى ؟! هل سيعود؟  هنا - في الميدان \ في الميادين ، خلف الحناجر- صمت ذاهب وصمت مقيم  وصمت كما الصبر جميل ، وهناك الصمت الرهيب . كم من الوقت تحتاجه الهتافات المنحية للكلام لتقول قولتها النهائية ؟ كم من الوقت يحتاجه الصمت الرهيب ؟  هل هناك نهاية سعيدة ؟ هل هناك نهاية أسعد ؟

     النقاشات الجانبية في استراحات المقاهي ، التي هي غير بعيدة عن الحناجر المدوية ، ضعيفة للغاية . أنت أقل . الكل أقل . ما يحدث سهران والناس نيام . قناة الجزيرة هي المصدر الحصري لما لانراه في الميدان ونحن في الميدان . هذه خبرة جديدة ، أن تكون في المكان لا يعني أن ترى كل شيء ، التفاصيل تتكاثر ، تحتاج إلى جمهرة من الحواس  ، ليست أكثر انتباها ، ربما  أكثر حنِّية ، ربما عارفة بطريقة ما أنها ترى ما لم يُرَ قبلا . التاريخ قبل أن يصبح تاريخا كيف كان ؟ ، ربما منفلتة من فطرتها التي فُطرت عليها سنين عددا. حواس لا تنام وإن نامت فلأجل مسمى ، لأجل طويل - طويل عليها مهما قصر، مشكلة أخرى : ما كان لافتا ، ما تدركه الأبصار  ، ليس ما هو جدير الآن ، مشكلة ! أنت لن تخترع ردارا في أيام .الردار قد يتشكل ، وقد لا . 







الجمعة 11 فبراير 2011

    الناس يتعانقون بحرارة ويؤكدون بإشارات واضحة على المباركة ، الثورة ملك لـ ( جميع ) ، أخلاط من البشر ، كل القلوب تخفق. النقطة الـ.. ،  التي تتخايل في البعيد والبعيد جدا والأبعد ،  وعند البعض قريبة للغاية ( خلاص الموضوع خلص ، ما حدش يقلق ) . النقطة البعيدة تلك التي تتقارب  !  و يتقرَّب إليها ( أشتات ) . هل هناك ما يسعد ( الجميع ) ؟ التفاؤل والتشاؤم لن يحل شيئا هنا ، فحتى المتشائم سيطير في الهواء  منتشيا بالنهاية السعيدة . النهايات السعيدة – مهما قلنا عن سذاجتها – لها احترامها . سوء الطالع الذي مارسه المتشائم  وأبلانا به هو – في عرفه  - محض صفارات للإنذار ، رغم أن الغرق لم يحدث بعد إلا أنه سيتخيله وسيتخيل قوارب النجاة ، التي سهر عليها . سوء الطالع – عنده  – أساسي. ما فيش حاجة ببلاش .....





 ** كتبت في  2012 ، ونشرت في مجلة امكنة 2014






right side

دوا نُقَط

  دَوا نُقَط - 1-   ما اسم   ذلك الدواء ؟    علبة صغيرة، داخلها زجاجة أصغر، الزجاجة بها قطَّارة، القطارة تنزل منها النقاط بمقدار. الدو...