الأربعاء، 2 يناير 2019

عبد الحميد مبروك



    حوائط المحل مغطاة ببراويز مختلفة الأحجام والأشكال ، البراويز تؤطر صورا له : في هيئة ضابظ ، أو لص ، أو سائق خصوصي ، أو مواطن عادي ، أو تؤرخه  جالسا على ترابيزة في مطعم أو حفل وسط كثيرين يتجاذبون أطراف الحديث، لكن من دون صوت ! وهناك صور تجمعه بنجوم الفن ، مع نور الشريف وفاروق الفيشاوي ويسرا وفيفي عبده  ويحيى الفخراني وآخرين ، ذلك باستثناء الحائط  الذي يواجهك حين تدخل من الباب ، حائط الصدارة  مشغول بثلاثة  براويز فقط ، عن اليمين سورة الناس، وعن الشمال  سورة الفلق، وفي المنتصف "العظمة الله ". 


    هو عبد الحميد مبروك الشهير بعبده الحلاق ، مِزيِّن الصبا والشباب . إذا انتهي من عمله يخلع الفوطة من عليك فجأة ، قائلا  " ألف مبروك ، اللي بعده" . حلاق على مستوى ،صاحب صيت وصوت جميل يدندن به فقط ، يدخره للسينما إنْ  لمع نجمه. 


صورته التي  تخطر في الذهن بسهولة ويسر  صورة شاب ثلاثيني  ذي شعر أسود فاحم ، متوسط الطول ، مليان حبتين ، له عينان سوداوان واسعتان ، تضيقان في لحظة الغضب وساعات التهريج ، وسيم وسامة ريفية . 


     تزوج عبد الحميد مبكرا جدا كما يبدو ؛ فله ابنان أكبرهما في السابعة عشرة ، والثاني ترك المدرسة بعد أن هجرها أخوه الأكبر  بسنوات قليلة ، وانتظم  مع أخيه إلى جانب والده ،المحل به ثلاثة كراسي بعدد أفراد الأسرة . عندما تسرب أبناؤه من المدرسة أو سربهم هو ، وانضما  إلى المحل ، قال عبده متقمصا دورا ما  ، مشيرا – بالسبابة - إلى ولديه " العيال دي عملت شرخ جامد  في وزارة التعليم ،  أنا بعون الله عالجت الشرخ !" 


   بجهد وصبر استطاع أن يمزج بين الرَّخامة وخفة الروح  ، دائم التهريج . الدوام يصنع اعتيادا ،  تجد نفسك متقبلا وأحيانا ضاحكا على ما لا يضحك بتاتا . ليس الاعتياد وحده هو مصدر تقبل قلشات عبده ، ربما لما لديه من دأب  ومثابرة،  وغزارة في  الإنتاج  ،  فقد نجح فعلا في صناعة كوميديا حقيقية وسط الكثير الكثير من القلش .   


   إذا نُودِي للصلاة ، يتم ما في يده  ، يلتقط سجادة الصلاة  ، ينتحي مكانا قصيا  في آخر المحل ، يعود إلى عمله ، يرسل إلى ابنيه نظرة مفادها "حي على الصلاة".


    بعد أن كسر الأربعين بقليل ، وكان يبدو ثلاثينيا بامتياز ، عمل كومبارس إلى جانب عمله ، يعلق ساخرا متمنيا "  في يوم من الأيام ،  قُريِّب إن شاء الله ، هيغيب البطل ، هتجيله مصيبة تاخده ، فالمخرج هينده عليَّ زي إبراهيم فريد في معبودة الجماهير ، تعالي يا بني يا للي هناك إنت ، هاضرب بإيدي على صدري "أنا أنا"  ؟  وهتضرب وهنبطل نحلق للأشكال الوسخة دي . 


     المحل كأنه سبيل ، يدخل ويخرج منه كثيرون ،  قد يمد أحدهم يده ليتلقط المشط أو الفرشة ويصفف شعره، وقد  يكتفي بالمرآة ليفحص  حبَّاية في وجهه ، او جرحا صغيرا ، أو ليراجع فقط على ملامحه ، وينظر إليها طويلا كأنها لشخص يعرفه ، وقد يدخل من  يريد أن يدفع الجمعية ، أو يفاوض ليحصل على مركز متقدم فيها  أو يقبضها ( هذا كان نادرا ) ، يتعامل عبده  مع من سيقبض الجمعية ، كأنه ربح ورقة يانصيب ، يردد  ساعتها جملته الشهيرة " النهارده قبضك يا معلم ، القبض الليلة ،  تحضَّر طقم البيرة ، أشوفك على عشرة ، عشرة ونص كده، ولَّا أقولك تعالى على هنا نشطَّب ونطلع سوا "  ، قد تحدث مشاكسات وسخرية من تصرفه هذا ، إلا  انه نجح  في مرات غير قليلة ، عبر مفاوضات ، منها قوله  مثلا "ما فيش مشكلة  ياعم خلي البيرة عندي أنا ، إحنا عايزين نقعد مع بعض شوية مش أكتر " ، إلا أنه في الغالب الأعم ينجح في أن يكون القبض ضمن احتفال  صغير على حساب القابض أو اللي هيقفش على حد تعبيره ،  الجمعيات كلها تُلمّ باليوم ، خمسة  أو عشرة جنيه  ، يسددها المذكور في نهاية اليوم ، أعضاء الجمعية أغلبهم من اصحاب المحال المجاورة لصالونه : البقال والخردواتي والسمكري والسباك والحداد ، وقليلا قليلا من الجيران الذي يدفعون بالشهر، وهو لا يفضل هذا.


   أشهر أدواره  كانت في أحد مسلسلات يحيى الفخراني  التي نصحنى وقت عرضها بمتابعته ، بعد أن زودني برقم الحلقة وبتوقيت  ظهوره بالضبط ، كان الدور  ناطقا لأول مرة ، عبده ضابط شرطة يدخل على البطل ، ويأمر الجنود بتفتيش المكان ، ثم يصطحب المتهم قائلا اتفضل  معايا .  

   كنت أظن  أنه لا يدخن ، فنادرا ما تجد في يده سيجارة  ، إلا أن أحد الرواد الدائمين  وأحد أعضاء الجمعية التي لا تنتهي قال  خالطا الجد بالهزل "فاروق بيجيب علبة كل أسبوع  :  3 سجاير  ، تلت مرات في اليوم  زي الدوا " . لكنه في نهاية اليوم وقبل أن يغادر إلى بيته : " لو ماعنديش تصوير لازم عشرتين دومينو مع الحبايب وحجرين معسل !) 


     بانضمام أسامة إلى فريق العمل توفرت فرص أكبر  لعبده ؛ ليركز أكثر في التمثيل ، صار يختفي بالأيام عن المحل .


    أسامة  هو ابن أخت عبده، حلاق شاب  ، في العشرين من عمره أو أكبر قليلا ، حصل على دبلوم صنايع وتم تعيينه برضاه في مؤسسة عبد الحميد مبروك  ، بعد أن نال حظا وافرا من التدريب في إجازات المدراس المتوالية ، انشغل زمنا بالتخطيط  لتفادي الخدمة العسكرية ، لأسامة  وسامة عصرية  صريحة ، له هيئة طالب جامعي يقضي معظم وقته في كافتيريا الكلية !  نجم نجوم الشارع ، يُستشار في فنون الأناقة والشياكة ، من أوائل من ارتدوا الجينز بماركاته الذائعة آنذاك كـ " إف يو إس" ، و "سونتي" ،  فتى احلام  المراهقات   من بنات شارعه والشوارع المجاورة   .  يمشين أمام المحل ،  ثم يتوقفن بعيدا نسبيا ، يخرج ليلتقط ميعادا ، أو ليزيل لَبسا غراميا  .


  أسلم أسامة قلبه لسوسن ، سوسن تشكو من غراميات أسامة ، لكنها تعرف أنها الحبيبة ! شرع في خطبتها ، لكنه نصح بالتراجع  ، أخبره أخوها بأدب جم أنهم من أسرة فلسطينية ، وبناتهم لا يتزوجن إلا من فلسطينيين ، شكا أسامة لطوب الأرض" ما أنا مسلم !هو أنا يهودي يعني ؟!"

    عندما اكتملت المأساة ، بدأ فصل جديد في حياة أسامة ، هجر المنطقة مع أول فرصة ، وعمل بمحل قريب من الكلية الحربية ، لم يجد صعوبة كبيرة رغم الفجوة الحضارية بين عين شمس والكلية الحربية ! كان مطلعا ومتابعا لتطورات المهنة ، هو أول من أستجلب الأجيال الجديدة من شباب الحي إلى محل عبده ، وبدا يدخل كلمات جديدة إلى معجم عبده الذي توقف من زمن ( رغم المهارة المشهود لها ) عند كلمات من نوعية " شعر ودقن وفتلة  وسيشوار " ، أما  أسامة فأدخل أسئلة من قبيل : قص بس؟ ،  ولا قص وغسيل؟ ، واحضر كتالوجا يعطيه للشاب ؛ ليختار القَصة المناسبة ، أو يشير مباشرة بأشهر من ارتبطت بهم من مشاهير الممثلين العالميين والمحليين ولاعبي الكرة.  


    ترك أسامة خاله عبد الحميد ، لكن المحل لم يهتز ، ولم تتأثر عتبة أكل العيش  إلا قليلا ، ربك بيرتبها ، عندما انسحب أسامة ، كان ابن عبده الأكبر قد أصبح "صنايعي شاطر" بالفعل ، والآخر يحلق للصغار ، تحولنا إلى الابن بعد أن تكرر غياب عبده.


    سيعود عبد الحميد  إلى المهنة بكامل لياقته ، وسنعود إليه ، أو نراوح بينه وبين ابنه الأكبر الذي اعتدناه أيضا .  عاد عبده  من جديد ، طلق الهواية بالتلاتة، لكن البراويز التي تؤرخ  لمسيرته ما زالت تزين الحوائط ، صار يشير إليها ، بعد أن  يضرب بالمقص (ع الفاضي)  عدة ضربات في الهواء ، قائلا :  " صوري قبل الاعتزال " !






  

right side

دوا نُقَط

  دَوا نُقَط - 1-   ما اسم   ذلك الدواء ؟    علبة صغيرة، داخلها زجاجة أصغر، الزجاجة بها قطَّارة، القطارة تنزل منها النقاط بمقدار. الدو...