حوائط
المحل مغطاة ببراويز مختلفة الأحجام والأشكال ، البراويز تؤطر صورا له : في هيئة ضابظ ، أو
لص ، أو سائق خصوصي ، أو مواطن عادي ، أو تؤرخه
جالسا على ترابيزة في مطعم أو حفل وسط كثيرين يتجاذبون أطراف الحديث، لكن
من دون صوت ! وهناك صور تجمعه بنجوم الفن ، مع نور الشريف وفاروق الفيشاوي ويسرا
وفيفي عبده ويحيى الفخراني وآخرين ، ذلك
باستثناء الحائط الذي يواجهك حين تدخل من
الباب ، حائط الصدارة مشغول بثلاثة براويز فقط ، عن اليمين “سورة الناس”، وعن الشمال “سورة الفلق”، وفي المنتصف "العظمة
الله ".
هو عبد الحميد مبروك الشهير بعبده الحلاق ،
مِزيِّن الصبا والشباب . إذا انتهي من عمله يخلع الفوطة من عليك فجأة ، قائلا " ألف مبروك ، اللي بعده" . حلاق على
مستوى ،صاحب صيت وصوت جميل يدندن به فقط ، يدخره للسينما إنْ لمع نجمه.
صورته
التي تخطر في الذهن بسهولة ويسر صورة شاب ثلاثيني ذي شعر أسود فاحم ، متوسط الطول ، مليان حبتين
، له عينان سوداوان واسعتان ، تضيقان في لحظة
الغضب وساعات التهريج ، وسيم وسامة ريفية .
تزوج عبد الحميد مبكرا جدا كما يبدو ؛ فله
ابنان أكبرهما في السابعة عشرة ، والثاني ترك المدرسة بعد أن هجرها أخوه
الأكبر بسنوات قليلة ، وانتظم مع أخيه إلى جانب والده ،المحل به ثلاثة كراسي
بعدد أفراد الأسرة . عندما تسرب أبناؤه من المدرسة أو سربهم هو ، وانضما إلى المحل ، قال عبده متقمصا دورا ما ، مشيرا – بالسبابة - إلى ولديه " العيال دي عملت شرخ جامد في وزارة التعليم ، أنا بعون الله عالجت الشرخ !"
بجهد وصبر استطاع أن يمزج بين الرَّخامة وخفة
الروح ، دائم التهريج . الدوام يصنع
اعتيادا ، تجد نفسك متقبلا وأحيانا ضاحكا
على ما لا يضحك بتاتا . ليس الاعتياد وحده هو مصدر تقبل قلشات عبده ، ربما لما
لديه من دأب ومثابرة، وغزارة في
الإنتاج ، فقد نجح فعلا في صناعة كوميديا حقيقية وسط
الكثير الكثير من القلش .
إذا نُودِي للصلاة ، يتم
ما في يده ، يلتقط سجادة الصلاة ، ينتحي مكانا قصيا في آخر المحل ، يعود إلى عمله ، يرسل إلى ابنيه
نظرة مفادها "حي على الصلاة".
بعد أن كسر الأربعين بقليل ، وكان يبدو ثلاثينيا
بامتياز ، عمل كومبارس إلى جانب عمله ، يعلق ساخرا متمنيا " في يوم من الأيام ، قُريِّب إن شاء الله ، هيغيب البطل ، هتجيله
مصيبة تاخده ، فالمخرج هينده عليَّ زي إبراهيم فريد في معبودة الجماهير ، تعالي يا
بني يا للي هناك إنت ، هاضرب بإيدي على صدري "أنا أنا" ؟
وهتضرب وهنبطل نحلق للأشكال الوسخة دي .
المحل كأنه سبيل ، يدخل ويخرج منه كثيرون
، قد يمد أحدهم يده ليتلقط المشط أو
الفرشة ويصفف شعره، وقد يكتفي بالمرآة
ليفحص حبَّاية في وجهه ، او جرحا صغيرا ،
أو ليراجع فقط على ملامحه ، وينظر إليها طويلا كأنها لشخص يعرفه ، وقد يدخل
من يريد أن يدفع الجمعية ، أو يفاوض ليحصل
على مركز متقدم فيها أو يقبضها ( هذا كان
نادرا ) ، يتعامل عبده مع من سيقبض
الجمعية ، كأنه ربح ورقة يانصيب ، يردد
ساعتها جملته الشهيرة " النهارده قبضك يا معلم ، القبض الليلة ، تحضَّر طقم البيرة ، أشوفك على عشرة ، عشرة ونص
كده، ولَّا أقولك تعالى على هنا نشطَّب ونطلع سوا " ، قد تحدث مشاكسات وسخرية من تصرفه هذا ،
إلا انه نجح في مرات غير قليلة ، عبر مفاوضات ، منها
قوله مثلا "ما فيش مشكلة ياعم خلي البيرة عندي أنا ، إحنا عايزين نقعد
مع بعض شوية مش أكتر " ، إلا أنه في الغالب الأعم ينجح في أن يكون القبض ضمن
احتفال صغير على حساب القابض أو اللي
هيقفش على حد تعبيره ، الجمعيات كلها
تُلمّ باليوم ، خمسة أو عشرة جنيه ، يسددها المذكور في نهاية اليوم ، أعضاء
الجمعية أغلبهم من اصحاب المحال المجاورة لصالونه : البقال والخردواتي والسمكري
والسباك والحداد ، وقليلا قليلا من الجيران الذي يدفعون بالشهر، وهو لا يفضل هذا.
أشهر أدواره
كانت في أحد مسلسلات يحيى الفخراني
التي نصحنى وقت عرضها بمتابعته ، بعد أن زودني برقم الحلقة وبتوقيت
ظهوره بالضبط ، كان الدور ناطقا لأول مرة ، عبده ضابط شرطة يدخل على البطل ، ويأمر الجنود
بتفتيش المكان ، ثم يصطحب المتهم قائلا اتفضل
معايا .
كنت أظن أنه لا يدخن ، فنادرا ما تجد في يده
سيجارة ، إلا أن أحد الرواد الدائمين وأحد أعضاء الجمعية التي لا تنتهي قال خالطا الجد بالهزل "فاروق بيجيب علبة كل
أسبوع :
3 سجاير ، تلت مرات في اليوم زي الدوا " . لكنه في نهاية اليوم وقبل أن
يغادر إلى بيته : " لو ماعنديش تصوير لازم عشرتين دومينو مع الحبايب وحجرين
معسل !)
بانضمام أسامة إلى فريق العمل توفرت فرص
أكبر لعبده ؛ ليركز أكثر في التمثيل ، صار
يختفي بالأيام عن المحل .
أسامة
هو ابن أخت عبده، حلاق شاب ، في
العشرين من عمره أو أكبر قليلا ، حصل على دبلوم صنايع وتم تعيينه برضاه في مؤسسة
عبد الحميد مبروك ، بعد أن نال حظا وافرا
من التدريب في إجازات المدراس المتوالية ، انشغل زمنا بالتخطيط لتفادي
الخدمة العسكرية ، لأسامة وسامة
عصرية صريحة ، له هيئة طالب جامعي يقضي معظم وقته في كافتيريا الكلية ! نجم نجوم الشارع ، يُستشار في فنون الأناقة
والشياكة ، من أوائل من ارتدوا الجينز بماركاته الذائعة آنذاك كـ " إف يو
إس" ، و "سونتي" ، فتى
احلام المراهقات من بنات شارعه والشوارع المجاورة .
يمشين أمام المحل ، ثم يتوقفن
بعيدا نسبيا ، يخرج ليلتقط ميعادا ، أو ليزيل لَبسا غراميا .
أسلم أسامة قلبه لسوسن ، سوسن تشكو من غراميات
أسامة ، لكنها تعرف أنها الحبيبة ! شرع في خطبتها ، لكنه نصح بالتراجع ، أخبره أخوها بأدب جم أنهم من أسرة فلسطينية ،
وبناتهم لا يتزوجن إلا من فلسطينيين ، شكا أسامة لطوب الأرض" ما أنا مسلم !هو
أنا يهودي يعني ؟!"
عندما اكتملت المأساة ، بدأ فصل جديد في حياة
أسامة ، هجر المنطقة مع أول فرصة ، وعمل بمحل قريب من الكلية الحربية ، لم يجد صعوبة كبيرة رغم الفجوة الحضارية بين عين شمس والكلية الحربية ! كان مطلعا ومتابعا لتطورات المهنة ، هو أول من أستجلب الأجيال الجديدة من شباب الحي
إلى محل عبده ، وبدا يدخل كلمات جديدة إلى معجم عبده الذي توقف من زمن ( رغم
المهارة المشهود لها ) عند كلمات من نوعية " شعر ودقن وفتلة وسيشوار " ، أما أسامة فأدخل أسئلة من قبيل : قص بس؟ ، ولا قص وغسيل؟ ، واحضر كتالوجا يعطيه للشاب ؛
ليختار القَصة المناسبة ، أو يشير مباشرة بأشهر من ارتبطت بهم من مشاهير الممثلين
العالميين والمحليين ولاعبي الكرة.
ترك أسامة خاله عبد الحميد ، لكن المحل لم
يهتز ، ولم تتأثر عتبة أكل العيش إلا
قليلا ، ربك بيرتبها ، عندما انسحب أسامة ، كان ابن عبده الأكبر قد أصبح "صنايعي شاطر" بالفعل ، والآخر يحلق للصغار ، تحولنا إلى الابن بعد أن تكرر غياب عبده.
سيعود عبد الحميد إلى المهنة بكامل لياقته ، وسنعود إليه ، أو
نراوح بينه وبين ابنه الأكبر الذي اعتدناه أيضا .
عاد عبده من جديد ، طلق الهواية
بالتلاتة، لكن البراويز التي تؤرخ لمسيرته
ما زالت تزين الحوائط ، صار يشير
إليها ، بعد أن يضرب بالمقص (ع
الفاضي) عدة ضربات في الهواء ، قائلا
: " صوري قبل الاعتزال " !