الاثنين، 31 ديسمبر 2018

هربت الفكرة

     ظل زمنا – كعباد الله الصالحين –  يستيقظ في الصباح الباكر، يشرب الشاي عَ الواقف ، يبحث بسرعة عن واحد من المستلزمات التي لا  تضيع إلا في الصباح، قد يجدها وقد لا ، إلى العمل ؛ بعد باب الشقة مباشرة يجهز بعض الاستجابات على أفعال تخالط التكرار من أزمنة سحيقة  و لا تخفى على أحد،  مع الوقت صارت في حوزته قائمة طويلة من الأداءات ، مختلفة المرامي ، تغطي عددا هائلا من المواقف ، لذا صار في كل صباح يكتفي  بتحديثها . وفي الطريق  تطارده أغنية الصباح من الراديو الأم  ، الأغنية تلح – بلا ملل -ولسنوات طويلة :  يانسمة الصباح / يا معطرة الجناح  . تكرار الغنوة كل هذه السنوات وبنفس الطريقة شكَّك في أي أمل كان من الممكن أن يعقد عليها ، كلما أصرت المطربة على التجويد ، صار من الصعوبة بمكان التعويل على الغناء – (غذاء الروح !!) ،..  هو يعرف أن أحلام كانت المطربة ، ولكن لم تعد ؛صارت الأغنية مع الوقت مقطوعة من شجرة ، تهاتي كل صباح ؛ ربما تضع يدًا على كتف أيٍّ من عباد الله .بالمناسبة، ليس عدلا  مافعلته الإذاعة المصرية على مدار صباحات طويلة طويلة بصاحبة  يا عطارين دلوني  ، و  يا حمام البر.
 
  هربتِ الفكرة :
 ربما كانت في البداية
    الصباح جميل وطيب، هو يحب الصباح لكونه يعتقد من زمان أن بالنوم سيهدأ الحال والبال، هو يحب الصباح؛ لأن أخلاق العباد تكون أهدأ في الغالب، ولأنه يأتي بعد الليل بالذات، وبناءً عليه فقد اعتاد كل صباح على سبيل المكافأة أن يشرب الشاي بالحليب، ومعه سيجارة طيبة نامت أيضا بالليل، لذا كانت بدورها تنتظر الصباح مثله. المكافأة ، أي مكافأة، يجب أن ترضي طرفين على الأقل.

هربت الفكرة
قد تكون ذات صلة بـ أحد العاملين في المطعم:
   كان العامل يقف أمام طاسة سوداء جدا ومعمرة، تعطيك إحساسا لا لبس فيه أنها أو أنك في المكان الغلط. يمسكها العامل من الطرف الآمن، إلى أنْ يتحول زيتها إلى دخان كثيف ينذر بمصيبة، وفي لحظة بعيدة للغاية ينزل بالبيض المخفوق، فتعود الحياة إلى الزيت، وتزدهر الأحوال. 


    في كل مرة أكتم تحذيري، هو لا يتأثر أبدا بمشهد الأدخنة الكثيفة، ناهيك عن منظر الطاسة نفسها. أقول لنفسي ”لن يحدث شيء، وإن قلت له ”، مع الوقت صرت لا أتأثر، لا، لا أعير انتباها على أساس أن هناك أشياء كثيرة في الحياة يصاحبها دخان كثير لاداعيَ له، مع الوقت صرت أصنع أكلي الشهي مثله، أقف أمام الحريق غير هياب، وأنزل بالبيض المخفوق في لحظته، لم استسلم للتحذيرات، مثلي مثله؛ فوصلتُ – بالضبط – لما وصل إليه أحد العاملين بالمطعم.


أو تتعلق بـ 
    ضرورة التفريق بين الوسائل التي استقرت من طول المعاشرة وصارت جسورا ، وبين ما يستجد من معابر طارئة ، المعابر الطارئة بُنيت في ظروف تاريخية ؛ لتحل مأزقا في التوصيل يخص فريقا بعينه . في منطقة المعابر هذه تنشأ بعض الفكاهات التي تمكن المشاركين من تفهم الأمر ، وتتيح فرص عمل حقيقية لروح الدعابة .هذه الفكاهات -الوسائل لا يعول عليها إطلاقا ، لأنها كانت استجابات أكثرمن كونها وسائل عابرة للزمن والظروف . إنْ حاولتَ وبادأت بها فلن تجد آذانا مصغية، هي تعجبك أنت فقط ، أنت تمشي الآن على جسر طارئ ، تم رفعه من زمن ، أنت كمن يضحك من القلب على نكتة ، ليست منتهية الصلاحية . ياريت، هي غير موجودة أصلا.

هربت الفكرة
    علي أي قهوة ، وفي أي صباح كان يجلس هذا الرجل (لم يكن قصيرا ولا طويلا ) الذي يقضم فطيرة سكر؟ ملفوفة في كيس بلاستيك ، عندما ينتهي من الجزء الظاهر منها يسحب الكيس البلاستيك كيفما اتفق ؛ ليظهر جزء آخر جاهز للقضم، الرجل كان يقضم بشهية مشكوك فيها ، ومع ذلك بوسعها أن تقنع ، كان يرد فيما يبدوعلى سؤال لم أعاصره . إجابته كانت موجهة للجميع : السمنة في الفطير حلوة ، إنما في الأكل غلط – مش صحية ، بتوجع البطن.
 

   الفكرة كانت تركض فكيف لي أن …. ؟
” كان على ساحل ما ؟ كان في بلاد الحر ؟
كان الهواء وافرا ، وكانت السخونة وافرة.
  الطقس يجري في الشوارع كحصان أول، وربما كحصان امرئ القيس، أعني إذ يركض ينحبس ما دونه ، أي أن الأشياء تجري بوسعها ومع ذلك لن تقدر، فكما تعرف السرعة ليست شيئا واحدا. مشكلة الطقس التي تولدت أثناء جريه أن الشوارع من فرط الهمة تكاد أن تنتهي، فما مصير الركض؟
   
الطقس وهو يركض يحمل حقيبة ظهر صغيرة جمع فيها الضروريات، رغم ضيق الوقت وصعوبة الظرف أصر– دون معرفة السبب – أن يلبس ملابس أنيقة للغاية، أحس أن هذا سيحل شيئا ، ليست المرة الأولى ، كان قد اعتاد مرارا أن يحترم الأسباب التي تفتقر إلى السببية .
   
ما جري بعد ذلك لا أعرفه الآن ،كأنه ذاب ، لا تقل” كأنه لم يحدث ”، الأنسب: كأنه حدث لآخرين.
 
   المهم عندما كان على ساحل ما، عندما كان في بلاد الحر صادفته مشكلة اعتبرها مشكلة المشاكل، لكن ، بكل هدوء، ظهرت الحاسة الغائبة؛ لتؤدي الغرض ثم عادت أدراجها، أحس أن المشكلة بسيطة للغاية ، وضع يده على كتف نفسه، كأنه سيأخذ صورة للذكرى معها، لكنه تراجع لمسألة تخص الابتذال، رغم أنه كان يتصرف ساعتها بخاطرٍ غائبٍ كمبتكر، كأنه أول واحد يضع يده على كتف نفسه ،معلش ، عاد ووقف إلى جانب نفسه، الابتسامة الواحدة التي كانت تغمرهما عوضت المشهد الضائع، نجح الأمر، أعتقد أن الصورة الآن أفضل كثيرا، كان قد أيقن أن الحل على بعد ثوانٍ، وظن أنه مكتشفه، وبدأ يتعرف على الصبر وسائر عائلته بصبرٍ لا علاقة له بالصبر، ربما ناتج عن أدب وتهذيب الدقائق الأولى عندما تلتقي شخصا للمرة الأولى.
 
   الهواء يأتي ويغيب، وبالتالي كان من الصعوبة بمكان أن يعيش لحظتين تتبدلان بسرعة مهولة كحصان أول، بعد أن مرت الثواني سالفة الذكر، التقط علبة السجائر وآخرج سيجارة، ووضعها أمامه هي والكبريت وانتظم في درس الصبر، عندما ذهبت المروحة جهة اليمين، وعاد هو إلى بلاد الحر، أشعل السيجارة بسرعة مهولة، على أساس أن المروحة عندما تعود ثانية يكون في الأمان، وعلى أساس أن السيجارة ستساعد في استجلاء الأمر.

ربما حدث :
   أنه كان يسير بمفرده على نفس الرصيف ، الذي ضم جماعة من الأصحاب فيما يبدو يسيرون في جلبة خفيفة، خفيفة بمعنى أنَّ هناك من يتحكم في درجتها، أحدهم (صاحب الصوت المنغَّم) كان يتكلم كلاما عابرا وغير مهم بالنسبة لي على الأقل، لو اجتهدتُ في تخمينه دون استناد إلى شيء، يقينًا سيكون عن إحدى مباريات كأس العالم أو عن مظاهرة ما، أو عن انقطاع الكهرباء، أو عن واحدة من مشكلات العمل، إن كانوا يعملون في نفس الوظيفة، ونفس الشركة أو المصنع، أو المستشفى. لم أتحقق عمَّا كان يتحدث بالضبط ، فجأة ظهرت في كلامه ” كلمة”، كأني صرخت : هذه الكلمة أعرفها من زمن طويل، هذه الكلمة لها مَعزَّة خاصة، صرختُ كأني بالأحضان. كانت الكلمة غريبة تماما في هذا الظرف، وقد تكون غريبة فقط ؛ لأن تركيزي ليس على ما يرام. أميل إلى التفسير الأول. كانت من تلك الكلمات المحترمة التي لا تعول إلا على نفسها، من المفردات القلائل اللاتي يتخلصن أولا بأول مما تسببن فيه ، أما ما تسببن فيه فطول الوقت على صلة، من اللاتي في حالة عداء دائم مع فكرة العمل، عداء قائم على التفهم ، على التمنع والرغبة معا، جائز أن تظل “الكلمة ” بلا عمل – ولو قاموسي – لفترات ممتدة تشبه الأبد، لكنك ستلقاها حتما، وإنْ مصادفة، وإن على رصيف، وإنْ كانت تقوم ببعض الأعمال الخفيفة حتى ينصلح الحال.
 
    المهم، مددتُ يدي وخلَصت الكلمة من يده، كان لها مايشبه الامتدادت في أيدي أصحابه ، وفي الهواء الذي يحيط ، لكني تعاملت. الكلمة لم تمانع ، ولم يمانع هو نهائيا. بدت عدم الممانعة كرما بالغا منه ، مما دفع قلبي الذي كان يسير معي على نفس الرصيف إلى أن ينحني بطريقة لطيفة جدا ، كأنه يردالتحية لجماهير غفيرة.

  عندما صارت المفردة في يدي ، رقَّتْ خطوتي على الرصيف ، على أكثر من رصيف . سعيد واللهِ  بما صرت فيه ، قلت أجرب ؛ ما يأتِ بسهولة  يتبدد أسهل . فتماديت في السير في شوارع ونواح ، جلست على قهاوي سبق ودخلتها خالي الوفاض. تمام  تمام .الأمور تسير ، تسير جدا،  كنت أمشي مجبور الخاطر ، مرتاح البال؛ كأني لن أفعل شيئا بـ  الكلمة. 



الجمعة، 28 ديسمبر 2018

غروب وشروق














غروب وشروق

مجاهد الطيب


   كأنّه يشاهد الفيلم للمرة الأولى ، ومع ذلك نزل فجأة ، لم يغلق التلفزيون ، سمح لي بمشاهدة ما تبقى  ومضى تاركا آخر التفاصيل: (الدفراوي سيلقي من السيارة علبة سجائره المدون بها موعد الاجتماع التالي للتنظيم السري ، صلاح ذو الفقار سيلتقط العلبة ويخبرنا ويخبر رشدي به)، ترك هذه التفاصيل، ليس مسايرة لمن ينتفضون فجأة في قاعات السينما؛ ليسجلوا نباهة قبل إضاءة الأنوار.

 

   كانت المرة الأولى التي يلتقى فيها سعاد ، بعد “غروب وشروق ” مباشرة، لما قِيدَ أبوها عزمي باشا رئيس قلم البوليس السياسي إلى السجن تحت حراسة رجاله، وفي مقدمتهم الصاغ فريد مكرم ( محمد الدفراوي )، ومضى رشدي أباظة بصحبة صديقه الوحيد كابتن طيار أمين عاكف إلى حال سبيلهما؛ لأن الفيلم قد انتهي بالفعل، في هذه اللحظة وقفت سعاد إلى جانب الشباك ، وأزاحت ستارته؛ لترى الراحلين، وترى وحدتها، هنا بالضبط كان الموعد.

 

  استغرقا وقتا أكثر من اللازم فيما أتذكر وهما يقطعان الفناء الواسع . في حرم القصر الخاوي على عروشه يسيران، وفي نهاية الممر الطويل جلسة أولى بينهما تأخرت طويلا، ونادل ينتظر.

 

   أشار إلى التاكسي، طلبت سعاد شايا بالنعناع وجاء له النادل بقهوته كالمعتاد، كان بوده أن يغير المعتاد، راحت روحه للنعناع،  لكن ، ليكن.

 

   لم يتطرقا مطلقا لما حدث لها، هي تعرف في الغالب سبب مجيئه، كان قد شاهد الفيلم مرارا، وآلمه ما وصل إليه الحال في المشهد الأخير، إلا أنه في هذه المرة بالذات كان عليه أن يفعل شيئا.

 

   كان المشهد مستقلا، وإنْ ظلت سعاد بنفس الفستان ذي الأكمام الطويلة المنتهي بـ ياقة شبه دائرية من الدانتل الأبيض الـدانتيل محكَم بـ بروش – كزرار أخير قبل الطلوع إلى الوجه.

   لم يتطرقا كما قلت سابقا لما حدث لها ولمديحة عزمي، على اعتبار أنه ما جاء إلا تأثرا و تقديرا، أو لأن الكلام في مثل هذه الحالات زائد مهما قلَّ، ناهيك عن أن دموعها ما هي إلا المشهد الأخير من الفيلم، ومحمود المليجي لن يدخل السجن وربما يتمثَّل في فيلمه القادم الأستاذ زكي رستم؛ فيتزوج من بنت جميلة تصغره بثلاثين سنة على الأقل؛ ليصير للحب نهر . وربما يكون رئيس عصابة ، وليس لديه بنت وإنْ حدث فلن تكون سعاد، ولذا فسوف يستحق عن جدارة مصيره الذي ناله في الفيلم السابق.

 

   رشدي أباظة، وإن تمنته سعاد ، لم يعد له دور، حضوره الآن سيفسد كل شيء،  مناسبته في غيابه، اختفاء رشدي ، أقول بتجرد، في مصلحة الدراما تماما.

 

   كانت سعاد ساكتة تضع يسراها على خدها ، وكان هو (بمسئولية)يتحدث بصمت كسلاسل الذهب.تحادثا طويلا، لم يتركا أيا من الأشياء التي تستحق، كالمعتاد ما لا يستحق كان أجمل، كانت سعاد وكانت مديحة، وكانت تتململ.

 

   صمت رهيب وجمال رهيب، سعاد لمّا تشوفها عَ الطبيعة مختلفة شوية ، لم أستطع أنا ولم يُرِدْ هو أن يميز طبيعة الاختلاف؛ لإنُه مش ها يعرف سعاد النهارده يعني. كانت تبادله الصمت بطلاقة نادرة، جملة الحوار الوحيدة التي نطقت بها أنْ نادت على النادل ” ممكن مية لو سمحت ؟ “،بالقطع لم تكن تريد الماء، جاء النادل بكوب الماء، ثم تراجع، وهو ينسحب من الكادر أزاح الببيون ثم السُّترة وانضم إلى كثيرين خلف الكاميرا أنهوا أدوارهم ولم يغادروا، ظلت سعاد مدة تنظر إلى ” ممكن مية لو سمحت “، بهدوء وراءه ذهول، لن يُسجَّل ذهولا ، كانت تنظر إلى ” ندائها ” للنادل بامتنان من اكتشف صدفة أن بوسعه أن يتكلم وبوسع الآخرين أن يسمعوه، بالمناسبة كانت هذه هي المرة الأولى ( والأخيرة ؟ ) التي يعيش فيها على طبيعته و أمامه جماهير.

 

   أثناء الشاي بالنعناع وبعده تبدلت سعاد كثيرا ، من صمت إلى صمت ، لا صمت يشبه الآخر ، تجولتْ (بتأنٍ) في أنواع من السكوت يصعب وصفها، نعم صمتها حزين، لكن الحزن (كما هو ثابت ) لا يخفي ما دونه.

 

    رغم أنها كانت ترتدي ملابس مديحة عزمي وكافة إكسسوارت الروح، إلا أنها ضحكتْ، هل تعرف ضحكة سعاد؟ ضحكتها مجلجلة. صح ؟

 

   ضحكتْ سعاد ؛ فوقفتْ فجأة ، وأرسلت يديها خلف ظهرها ؛ ربما تمهيدا لحيرة سوف تتلبسها بعد عشر دقائق . بدت يداها وهي حرة كأنها ليست لها بالذات، ثم عادت وجلست و أخذت تدندن ما سوف تقوله بعد خمسة عشر عاما:

" أنا باضحك من قلبي ياجماعة/ مع إني راح مني ولاعة/ وبطاقتي في جاكتة سرقوها/ وغلاسة كمان سرقوا الشماعة"

 

   كانت سعاد في مشهد ” الشيكا بيكا ” كما تعرف ترقص وتغني بحماسة ؛ لتظهر خيبة أملها في الحماسة .أمسكت بالبالونة لو تفتكر ونفخت فيها بعزمها حتى فرقعت،صمتها الآن مرادف لهذه الحالة التي ستأتي بعد سنوات، ليس مرادفا بالضبط.

 

  لا يحب فيلم شفيقة ومتولي ، لكنه من الحريصين على  بانوا بانوا 




   في بانوا يجلجل المزمار البلدي أولا ثم يختفي، إن كانت سعاد  في بانوا، عند البعض تقدم حفلة تأبين بنفسها لنفسها ، إلا أنه عندما غنت ( بعد موسيقا أطول من اللازم لولا ما حدث خلالها ) لم يتأثر كثيرا بالكلام ، كان صوتها بعد أن وجد محله المختار يمزج ببال مرتاح بين حزن جديد ( ليس عدوا ولا حبيبا ) وبين دلال يحاول أن ينطفئ بخطره،لا ، الدلال يدخل ويخرج كأنه لم يحسم أمره بعد، الصوت الذي صار جسما يراوح بين التجريس، وبين العزلة في عز الجمع، وبين الاستمتاع بلا شبهة أثرة، كأنها استقرت، بعد أن رقصت بالفعل، أنه بات لزامًا أن ترقص للرقص، وأن هذا لا يضير.

 




   في  الشيكا بيكا  - الحركات اللي مش هيَّ - كانت مصدومة؛ لأنه ببساطة : ما ينفعش كده.!
في ” بانوا ” تقريبا الدنيا شالت وحطت ، هِيَّ ورا شوية، هل صارت ترى بوضوح أنَّ ” القلب على الحب يشابي / والحب بعيد عن أوطانه ” ؟



   طيب، لديَّ مشكلة فعلا مع صاحبات الشَّعر الحر ( مهما كان جميلا) اللاتي يعشن أزمة يمكن أن تحل بيد واحدة، وأبدا لا يفعلن، وإنْ، فيكون متأخرا جدا  لكن الأمر هنا بدا مختلفا تماما . أعتقد هو أيضا لديه نفس المشكلة ،إلا أنه رأى أنَّ نفس الاستجابات قد تتكرر بالحرف، لكنها لن تكون نفس الاستجابات.

 

   حين كانت في قصر أبيها، حين كانت ترى إليهم من الشباك، كان شعرها كما تعرف ملموما طبقا لتوجيهات المخرج والسيناريست وتقديرا للظروف، وظل هكذا لوقت طويل، لا يعرف بالضبط متى صار حرا ، قد تكون اللقطة البينية قد غابت عنه ، وربما حدث هذا حين امتد حبل الصمت ،وربما ….. ، عموما ليس هذا ما شغله، لأنك يمكن أن تسمتع بشَعر حر ، ولا تسأل عن السبب.الحكاية أنها كانت تقبض على كوب الماء الملآن، والذي سيظل هكذا، بيدٍ ، وبكف اليد الأخرى المفتوحة تضغط على التراييزة، كأنها تسند شيئا ما، شيئا لا دور له في المشهد، وربما لا وجود له أصلا ، لكن (كما هو واضح ) من المستحيل أن تتركه لحاله، كأنها كانت تعرف أن خصلات من الشعر الذي صار حرا ستطير، واليدان للأسف،مشغولتان.

 

   في الحقيقة، صار مبررا تماما، وعلى الرحب والسعة ظهور الشَّعر الحر، بل طيران الخصلات دون مقاومة، والدليل على ذلك أنه عندما تراءتْ بعد قطع مفاجئ بالبلوزة البيضاء التي تظهر السلسلة الذهبية كاملة،لم ير الـ ” فجأة “، بالعكس كانت النَّقْلَة ناعمة جدا ، وتقبل بحماس كل ما تلا ذلك من ألوان.

 

   أخبـرها بأكثر من طريقة أنه كان يراها على الدوام إلى جانب دورها ورغمه، ويطمئن عليها، لم تكن على ما يرام في أكثر من فيلم.

 

   خلال مسافة في الزمن بدت أطول من الاحتمال صادفتها حيرة ، الحيرة التي أوقفتها وأطلقت يديها منذ عشر دقائق ؟ الحيرة أعقبها تململ، التململ تلاه سكوت جديد، ليس كالسكوت الأول.

 

   اختفت الصورة وبقيَ صوت الصمت يسري، انتظرَ لترجع، لم تعد، لم يعرف التفاصيل ولم يحاول، إلا أنها في لقاء تالِ، رغم أن الفيلم لم يكن على المستوى، كانت والحمد لله أفضل كثيرا.


الخميس، 27 ديسمبر 2018

نؤنؤ












نُؤْنُؤ

                      مجاهد الطيب 









  تزدهر اللعبة، تتجلى، تصل إلى أعلى معدلاتها ...... في المشمش، إلا أنها  لا تتبخر فجأة مثله، عمرها أطول من عمره، فقط  تخفت لوقت معلوم، ثم تعاود الظهور ثانيةً.
لا أعرف على وجه التحقيق  هل تسمية ” نوى ” المشمش بـ “النؤنؤ ” تسمية  معرووفة في نواحٍ أخرى من القاهرة أوغيرها،أم أنها تخص حينا فقط وربما شارعنا ؟! على أية حال يبدو لي هذا المسمَّى الآن ضربا من التمييز الإيجابي  ؛ فمن الفاكهة ما يوشك أن  يؤبِّد ، ومنها العزيز الغالي.

    كان” زيكا ”  – في الطفولة – أمهر من يلعبون ” ملك وكتابة” على النُؤْنؤ . في هذه النواة تتركز المادة الفعالة  لصناعة ” الدُقَّة  ” البيتية ، بعد معالجتها بالتوابل  تُغمَّس بالعيش أو بالسميط ، بمرور الأيام  وتغير الأحوال  صار النؤنؤ يُجمع بحماس منبت الصلة عن المنفعة  المباشرة ، نشاط حركي يعزز روح المنافسة ، فيه احترام لقواعد غاية في البساطة والحسم : ملك \ كتابة . لكن زيكا رغم مكاسبه الكبيرة ، ومعرفة القاصي والداني في المنطقة  بثروته المهولة من النؤنؤ ، كان إذا خسر مرة  ينتفض ويعلو صوته ناعتا خصومه بالـ  نحْس  ،يشكِّك في شفافية العملية ذاتها ، في صلاحية العملة المعدنية التي ربح بها  حالًا، ويصرُّ على أن يستبدل بها أخرى  .الطامة الكبرى تحدث عندما يكون في عز خسارته ، ويُنادَى على أحدهم من قِبَل الأب أو الأم ، يقف زيكا ويضرب الأرض بقدميه ضربات عسكرية منذرة :” ما حدش هيمشي  ، عايز تمشي كَفِّيني الأول ! “

    من المفترض أن” كفِّيني ” هذه  تخضع لاتفاق مسبق ، وتعني أن اللعبة لن تنتهي إلا بانتهاء ثروات المتنافسين – لآخر نؤنؤة ، ولايجوز لأيِّ من  اللاعبين تحت أي ظرف  أن ينسحب قبل تمام المراد أو ضياع الأمل. 

     لم يكن زيكا طفلا عاديا ؛ له شخصية قوية ، ووسامة ظاهرة ، وصبر على الخسارة حتى تخسر . كان يمكن لزيكا أن يكون محبوبا  لولا طيبته الموسمية  . نتفهم بالطبع هموم  زيكا ومسئولياته ؛ فهو لا يمارس اللعبة بخفة مثلنا ، اللعب كان حياته ؛ فكثيرا ما تكون أمواله في السوق .  في أوقات الشدة يحن زيكا على الرفاق ، يسلفهم  بعض النؤنؤ لتقام اللعبة ، بشرط المضاعفة ساعة الاسترداد ، وحدث أن  تنازل  أكثر من مرة  واسترد  النؤنؤة بنؤنؤة مثلها – دون فوائد  ، لكنه لم يعترف يوما وأيا ماكانت الضغوط  بـ ” بقية الإيد “.نحن نموت من الغيظ ،أما هو  فكان يمد يده ويقول : عهد مين ده ؟قبل أن نقول : عهد الله !  يزيد : وعهد الله  ما ينفع ! ،   كان – ببال مرتاح –  يرى أن  الجد جد.


     ”بقيةالإيد”  بند آخر في قواعد اللعبة  يلزمه أيضا اتفاق مسبق: يصرخ اللاعب المهزوم “أنا عايز بقية إيدي” . بقية الإيد أشبه بمكافأة صغيرة، يعطيها الرابح للخاسر في نهاية اللعبة، حلاوة مكسبه،أو إطفاءً لنار  الحسد، أو جنتلة. الحاصل أن بقية الإيد كانت من البنود المعطلة، حق من حقوق اللاعب الخاسر تم التواطؤ عليه زمنا؛ فأصبح كأن لم يكن .غير أن القليلين رأوا في ” بقية الإيد” نوعا من زكاة اللعب، عليهم أن يؤدوه، بشرط ألا يُطلب منهم ذلك، وألا يكون دوريا. من المناسب أن نذكِّر في هذا السياق أن هاتين القاعدتين ( بقية الإيد\ كفيني ) تندرج تحتهما لعبة أكثر شهرة، وهي الـ”بِلْي“، وأخرى منقرضة، وهي” الكازوز “

   ثمة طريقة أخرى لممارسة رياضة النؤنؤ: تُحفر حفرة صغيرة في الأرض وتسمى “طَارُوقة ”، يقف اللاعب عن بعد متفق عليه ومحدَّد بـ ”لاين”.رجلك ورا اللاين يا كابتن،ينشِّن اللاعب على الحفرة، إذا طاشت النؤنؤة تكون من نصيب الحفرة، يتراكم النؤنؤ الخائب واحدة بعد الأخرى؛ ليصادف صاحب النصيب  صاحب أول نشان ماهر.

في مداخل البيوت (على سبيل  التغيير)، وفي غرف الأطفال (من باب التحريم)، تحريم  مخالطة ” زيكا “ وأمثاله ، كانت اللعبة تأخذ شكلا ثالثا: طبق صغير غويط بديلا من الحفرة: يمسك اللاعب بزوج النؤنؤ، ويرمي بهما عن بُعدٍ قريب في الطبق، المكسب يعني أن إحدي النؤنؤتين تنزل في الطبق والأخرى خارجه، وإلا فالطبق أولى بالنؤنؤتين. المتسابق قبل أن يبدأ ضربته  يمسك بزوج النؤنؤ يقرِّبُه من فمه ويبوسه؛ ليُذهِبَ النحس، ليترجَّى النؤنؤة ، ويذكِّرها بخطورة الموقف. 


الأربعاء، 26 ديسمبر 2018

كتاب النوم - هيثم الورداني






عن كتاب النوم لـ هيثم الورداني









إحساسي بالظبط بعد ما خلصت قراية ، إني كنت في رحلة طويلة محظور خلالها النوم نهائيا فضلا عن الشرود ، إلا إن النوم مش بالخُطر وبناء عليه نمت او شردت وكان عليَّ إني أرجع وأقرا تاني اللي فاتني ، خلال الشرود ما كنتش بعيد عن الكتاب لأني شردت بفضله ، شردت فيه وفي حالي وفي حال العباد ، في هاني ونادين و.. ، مبسوط خلال الرحلة لكني تعبان ، يمكن تعبان لأن بناء الجمل كان متيقظ بطريقة مرعبة ، خلينى أقول التيقظ ، بدل الدقة ، أو الدقة المتيقظة ، أنا حاسس إن هيثم كتب النص وهو بيتتأرجح بين مفهوم ” سابع يقظة” ومفهوم ” سابع نومة ” ، بحسب تعبير  الكتاب ، واقدر أقول إن مفهوم التعب ده رايح جاي ، أقصد إن هو ما يخصش القارئ بس ، لأ أنا شايف تعب الكاتب كمان.

التعب هنا فيما يبدو معناه إن الجملة أو المفهوم أو التوصيفات الكتيرة مش هتسبيك تمشي لحال سبيلك بعد ما تقراها ، إنت مضطر ترجع مرات لجمل أو مقاطع قريهتا قبلًا ؛ عشان تبقى قادر تتخيل النقط المترامية المحكومة بمحوري النوم واليقظة .

الكتابة بتحاول تقرب من المفاهيم دي بالدخول عليها من أكتر من اتجاه ، من اتجاه تأمل النوم واليقظة في فكرة الثورة ، أو من اتجاه الأب والاصدقاء المتيقظين حاليا بعد اختفائهم المفاجئ ( الناس نيام فإذا ماتوا ... ) ، أو من اتجاه ضبط المفاهيم دي في فضائها المجرد .

عاجبني التنويع بين ملاحقة الفكرة في عالمها التجريدي ، وبين مقاربتها على نحو ملموس بأحداث( حتى لو كانت أحلاما ) أو شخصيات بعينها ( الأب /هاني / نادين / أسامة/ وائل ) ، المسألة دي ( التنويع ) اللي هي محور البناء بتخفف من التجريد أو لنقل بتعيد الاعتبار ليه وبتخليني أقراه تاني باستمتاع وتفهم أكتر ، بتعمل فسحة محببة و غير مقطوعة الصلة ، وبالنسبة لترتيب المجرد ثم الملموس( اللي هو مش ملموس قوي ) ، في الأول قلت طب هو ليه ما بدأش بمقطع سردي ، ولكن في الآخر استريحت للترتيب ده رغم إن المذكور ثانيا هو مصدر وملهم المذكور أولا . عايز أقول كمان إني كنت باستنى المقاطع دي : الأب والأم وهاني ونادين.

ورا الدقة في النص فيه طاقة شجن بتحاول تسحب المجرد لأرض الملموس – سواء شخصي وعام ، أو بتأشَّر على أنه مش مجرد “مجرد” لوجه الله ، ورغم الشجن فمن رحلوا حاضرون في النص بلا أسى، الموت بقى سهل بعد الثورة إلى درجة أنه طال ناس في بيوتهم بعد أن انفضت المظاهرات، رغم أنهم كانوا في المظاهرات نفسها.

النص بيتكلم عن أحياء ليس بالمعنى المجازي المطروق بتاع جملة فلان لسه عايش،لأ، النص شايفهم موجودين كلحم ودم ، أو زي ما قال الكاتب (ذراع نادين لم يكن قبض الريح)، اللغة في العمل إنجاز حقيقي ،  لغة تقدر تقول “سرها هادي” رغم إنها لا تسير إلا في مناطق شديدة التوتر، طيب سرها هادي إزاي؟ يمكن لأنها شايفة كويس ، يمكن لأن هدفها الكشف مش التعبير بالذات  طبقة الصوت اللي وصل لها الكاتب تفعل ما تفعل بكل هدوء ويسر، غير مشغولة بذاتها، هدفها تحديدا الملاحقة، التفاهم مع مفهومات قيد التعريف

طيب، هل هو كتاب عن النوم ؟عن الموت ؟ربما يكون كتابا عن الثورة، ربما يكون كتابا كتب بعد ثورة، بعد ربيع! بعدما انحسر جبرا واختيارا زمن الشهادات العامة (إلى حين ) ، التي تروي ما رأت وما فاجأها من مشاعر ، ومن ملموسات لم تكن قبلا ملموسة، ما كان مراوحا بين النوم واليقظة ، هذا المراوحة أنتجت كلاما كثيرا كثيرا ، كلاما يعلمك بكل تواضع فضيلة الصمت، سواء ممن يرى النوم طويلا ونهائيا،أو ممن قرر أنها نومة قصيرة إن شاء الله واليقظة آتيه لا ريب فيها!!

إلا أن كتاب النوم اختار طريقا ثالثا ، أن يفتح كلاما ، أن يتجول بين النوم واليقظة بلا مقصد سوى الفهم أو فتح المجال لكلام غير الكلام ، اختار راويا محددا ليحكى ، اختار فردا بعد جمع ، حدث في الماضي القريب جدا أن تحول أفراد كثيرون (لوقت معلوم وبفرح بالغ وحقيقي )إلى جماعة كبيرة ، ثم جرى ما جرى ، عادوا أفرادا ، السير في الشوراع لمسافات طويلة والمبيت (نوما ويقظة)في الميادين ليس لعبة.
    عندما يتفرق الجمع يصير لكل واحد حكايته الشخصية عن الثورة  (كلمة ثورة في هذا السياق والظرف تحتاج إلى جهود جبارة ومخلصة ؛ كي نستبدل بها كلمة أوقع ) ، يصير لكل واحد حكايته الشخصية ، وإن شئت التأويلية ، وإن شئت التأملية التي تبتعد بالمشوار عن (الثورة) ، لتراها وترى نفسها، أو بالأحرى لترى ما تود أن ترى من زمن . إن لم يكن بوسع الكرب العظيم ، أو الفرج المأزوم، سمه ما شئت، أن يساعد في إدارك ما هو أبعد منه، فمن يساعد؟

مختارات من سجن العمر


 







 مختارات من “سجن العمر” 2

  توفيق الحكيم

 

كامل الخلعي

   انتهت الإجازة الصيفية وعدت إلى القاهرة حاملا مسودة المرأة الجديدة وقد أتممتها ، كان شهر أكتوبر قد أقبل ، فوجدت مسرح الأزبكية قائما على قدم وساق ، يجري تدريبات على”خاتم سليمان”و"العريس " ومسرحية أخرى اسمها "الدنيا ومافيها" للشيخ يونس القاضي المؤلف الملحق بفرقة منيرة المهدية ، كان قد تركها واتجه إلى العكاكشة ، ولعل يونس القاضي وهو أيضا مؤلف الاغنية المشهورة وقتئذ :” ارخى  الستارة  اللى فى ريحنا أحسن جيرانك تجرحنا “

 

   لعله الوحيد الذى لم يكن يقتبس عن مسرحية أجنبية لجهله اللغات الأجنبية ، لهذا كانت مسرحياته عبارة عن مشاهد غنائية ، لا رابط بينها ولا ضابط ، لكنها كانت صالحة كإطار للموقف الغنائي، كان اهتمامي الخاص بالطبع متجها إلى مسرحيتي ” العريس ” وقد قرر لي زكي عكاشة نظيرها ولا مرد لقراره مبلغ عشرين جنيها فقط ، بحجة أنها خالية من الألحان ، وأني المؤلف الوحيد فيها لا شريك لي،أما “خاتم سليمان ” فكانت تدريباتها قد انتهت، وجاءنا كامل الخلعي يسألني أنا ومصطفى ممتاز” هل الألحان أعجبتكم ” ؟

فكان ردنا الطبيعي :  ( نعم أعجبتنا)

   فمد يده قائلا” يدكم على البقشيش !!” ، ووالله ما تركنا إلا بعد أن قبض من مصطفى ممتاز ومني مبلغ جنيه مناصفة، وأعطانا إيصالا بذلك قال فيه بالنص:

 ( استلمت من حضرتي ممتاز أفندي وتوفيق أفندي  مؤلفي رواية خاتم سليمان ماية قرش صاغا كمكافأة على حسن الألحان التى وضعتها فى روايتهما ، وهذا وصل بالاستلام)
كامل الخلعي 11 نوفمبر1924                                                   
                                                    ملحن رواية خاتم سليمان


 

تياترو زيزينيا


   نجحت فى الليسانس ، فلم أصدق ، إلى أن جاءوا بالصحف ، وطالعت فيها العبارة المألوفة وقتئذ : نجح فى شهادة الليسانس الأفندية الآتية أسماؤهم : وبحثت عن اسمي بسرعة فوجدته قبل الأخير باسمين ، فحمدت الله أن قد وجد اثنان أسوأ منى !! ، وكان فرحي عظيما ، فحسبي أني نجحت ونلت الليسانس والسلام ، ولكني بعد الفرحة جعلت أتأمل المستقبل بعين الحيرة والتساؤل ، الآن ماذا أنا صانع ؟ المحاماة ؟ النيابة ؟ لم تكن ميولي متجهة فى هذا الطريق ، لم أفكر طويلا ، فقد شغلت عن التفكير بمجىء جوقة عكاشة إلى الإسكندرية ذلك الصيف لتمثل رواياتها  – ومن بينه رواياتي – على مسرح كان يسمى تياترو زيزينا ، وانغمرت بالطبع بين الممثلين والمطربين ، كنت ليل نهار بينهم ، وكانوا قد نزلوا فى فندق متواضع بشارع البورصة ، مملوء  بحانات البيرة ، كان الممثل الكوميدي الأول المرحوم محمد بهجت لايحلو له إلا النزول من  فندقه إلى قارعة الطريق يجلس إلى إحدى موائد الحانة على الرصيف بالجلباب والقباب ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍ ، وكان مدير الفرقة زكي عكاشة قد نزل فى فندق آخر فاخر يليق بمقامه ، مكتفيا بالمرور كل صباح فى عربة لا ينزل منها ، بل يشرف من عل بكل تعاظم على أعضاء فرقته ، فما أن كان يرى محمد بهجت فى جلسته تلك حتى يقول له بازدراء (جلابية وقباب فى الشارع العمومي، الكوميديان الكبير بتاعنا ؟!)

 

   فيرد عليه محمد بهجت رحمه الله بقوله :  ( وأنا كنت طلعت بالقباب والجلابية فى دور السلطان صلاح الدين أو ريكاردو قلب الأسد ؟  أنا هنا فى الشارع سلطان  زمانى ، بقبقاب ،  بصرمة قديمة، أنا حر!) ، فيترفع زكي عكاشة عن الرد ويصعر خده ، ويكتفي بأن يأمر الحوذي بصلف وعجرفة : 

(ســـــــــــوق  يا اســـــــــطى)  ‍

فما أن تبتعد العربة حتى يبصق محمد بهجت فى أثره بصقة كبيرة وهو يقول :

 ( رح ، داهية تسمك فى تقل دمك)

 

موت الأب

   أشار لي والدى وهو على فراش المرض ، فاقتربت منه ، فسألني بصوت متداع عن والدتي ، فقلت له إنها فى المنزل ، وتسأل عن صحته ، فقال هامسا : ” سلم عليها ” ، والواقع أنه لم يكن ينتظر وجودها إلى جانبه  بالمستشفى ، ولا كان يريده .. لقد كان دائما يوصيني فى حياته هامسا : ” أمك لا ينبغي إطلاعها على خبر مثير،  ولا إحضارها فى موقف مثير ” ! فهي بطبيعتها المنفعلة ما كانت تطيق هذه المواقف ، وما كانت تتمالك أعصابها فيها ، وأنا نفسي ما من شيء يخفينى مثل علم والدتي بمرضي ، ذلك أنها تملأ الدنيا صياحا وضجيجا وشكوى وأنينا ، ولا تترك الطبيب يؤدي واجبه دون أن تنهال عليه بالسؤال الملح والقلق الصاخب وأحيانا بالتقريع والتأنيب لتأخر ظهور الشفاء ، بل ، ولي أيضا أنا المريض لتعريضي نفسي لمسببات المرض ، كل ذلك فى الوقت الذى يحتاج فيه الموقف إلى الهدوء والتماسك ، والعمل الصامت المجدي ، لذلك حمدنا الله أن بقي والدي وحده مع تلك الممرضة ، لكن المرض طال حتى أنهك الجسم وأجهد القلب ، كنت أزوره فى المستشفى كل يوم ،فلما اشتدت عليه العلة وساءت حاله ودخل طور الاحتضار ، سألنا الطبيب عما إذا كان يُستحسن إحضار” كونصلتو” ، فقال إن هذا لم يعد مجديا ، ولست أذكر هل كان معي فى ذلك اليوم صديقي الدكتور حسين فوزى الذى كان يلازمني أحيانا فى هذه الزيارات بالمستشفى ، كل ما أذكر هو أن إدارة المستشفى اشترطت دفع خمسة جنيهات مقدما لمجرد السماح لنا بإحضار ” كونصلتو ” ، وثارت ثائرتي لهذا الإجراء غير المعقول ! ورأيت فيه ابتزازا واستغلالا للموقف، إن أطباء الكونصلتو علينا نحن بالطبع ، فلماذا وفى نظير ماذا يأخذ منا المستشفى الجنيهات الخمسة ؟ وفى غمرة هذه الثورة النفسية رفضت ، ولم أزل حتى هذه اللحظة نادما على هذا الرفض ، ماذا يساوي مال الدنيا كلها أمام رجل يحتضر !  وأى رجل هو ؟!  أمام الموت ماكان ينبغي لي أن أناقش فى المعقول وغير المعقول ،  ولكنه طبعي أحيانا لعنه الله.

 

   ومات والدي ، ولم أكن وقتئذ إلى جواره ، كنت فى المنزل أتهيأ للذهاب إليه فى موعد الزيارة ، وإذا جرس التليفون يدق ، إنه المستشفى يعلن إلينا الخبر ، وعندما دخلت إليه حجرته ، وجدته مسجى على الفراش وقد غطوا وجهه بالملاءة البيضاء ، وقالت لي الممرضة اليهودية : إنه كان قد أفاق لحظة وطلب منها كوب ماء ، ثم التفت إلى الحائط وكان معلقا عليه تمثال صغير من الخشب للمسيح وهو مصلوب ، فأشار بإصبعه إلى تمثال المسيح وقال لليهودية بصوته المتداعي ، محاولا أن يحتفظ فيه بنبرة سخريته القديمة (إيه رأيك ؟ مش انتم اللى قلتم اصلبوه ؟‍‍‍‍‍‍‍‍ ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍) ، فضحكت اليهودية ثم استدارت تملأ له كوب الماء ، ولما عادت به إليه لتسقيه وجدت رأسه قد انحدر من فوق الوسادة ، لقد فارق الحياة ، لم تشأ الممرضة أن تريني وجهه ، ولكني أصررت على أن تكشف الغطاء لأتأمله ، وإذا بي أرى وجها لا يمكن أن أنساه ، إنه الصفاء والتجرد والسمو عن الأرض، كل ذلك قد ارتسم على وجه هادئ بلا ملامح ، أو ربما كانت هى ملامح الخلود.

 

  ولا أذكر أني ذرفت عبرة ، بل كان الموقف أجل من أي مشاعر عادية لقد تجمدت لحظة وذهلت عن نفسى ثم أفقت فى الحال ؛ لتشغلنى توا مسئوليات الساعة ، وجدت أخي زهير خارج الحجرة ، موفدا من قبل والدتي بمبلغ  من المال قال إنها دفعت به إليه لاحتياجات الدفن ثم سافرت إلى العزبة ، لأن أعصابها لا تحتمل الموقف ، وكنت أنا قد احتطت للأمر فجئت معي بمبلغ كاف من القاهرة ، وجعلنا ندبر أمر مراسيم الدفن ، وكانت معالجتنا لهذا الأمر أنا وأخي غاية فى الحمق وقلة الدراية.

 

   فقالت لنا المستشفى: (الجثمان تحت تصرفكم)، قلنا ( احفظوه عندكم لحين الطلب) فقالوا ( لايمكن الاحتفاظ به فى الحجرة ، لأنها سوف تخلى وتطهر وتعد لاستقبال المرضى الجدد ، ولكن الذى سيحصل فى هذه الحالة هو أن الجثمان سينقل ويوضع على رخامة بجوار الباب الخارجي لحين طلبكم).

 

  فتركناهم يفعلون ما شاءوا بالجثمان ، وانصرفنا نفكر فى أمر الجنازة ، وفى الطريق قابلنا بالمصادفة أحد المعارف، فلما علم بالخبر قال يجب إعلان الوفاة بسرعة ،وذكر لنا أن أسرع طريقة هى طبع إعلانات صغيرة توزع على مقاهي المدينة وأن هذا يمكن ، أن يتم فى ساعتين ، فكلفناه بالمهمة ، وكان الليل قد دخل ، فآوينا إلى المنزل أنا وأخي ، وكان المنزل خاليا خاويا بعد سفر والدتي بالخدم فنمنا من التعب ، أو هكذا خيل إلينا ، فقد كنا فى حالة من الأرق والقلق واضحة، وإذا الباب يدق،  فنهضنا على عجل ونحن نتساءل منذا يكون الطارق فى مثل تلك الساعة من الليل ؟ ، وفتحنا وإذا به صديق والدنا المهندس ” يوسف ” ، أدخلناه وقد خيمت على وجهه سحابة حزن ، سألنا كيف علم بالخبر، فقال من الإعلانات، كان جالسا على القهوة التجارية، وإذا إعلانات يد تلقى عليه وعلى الجالسين، فظنها كما قال إعلانات تياترو، وهم برميها بعيدا، وإذا بها إعلان عن وفاة(إسماعيل الحكيم)!

 

   وختم كلامه الحزين متنهدا (لا حول ولا قوة إلا بالله، إنا لله وإنا إليه راجعون)  وغرق فى الصمت لحظة، وغرقنا معه، ثم رفع رأسه وجال ببصره فى اتجاه البيت سائلا عن المكان الذي بيبت فيه جثمان الفقيد، فلما علم أنه المستشفى، وفهم منا أن جنازته ستخرج من هناك مباشرة، كاد الرجل يصعق، وقال (ما هذا الكلام ؟ أليس له بيت يخرج منه؟ يخرج من مستشفى؟ كمن لا بيت له ولا أهل ولامحل إقامة ؟ ماهذا؟ لايصح أبدا، جنازته لا بد أن تخرج من بيته، هذه هي الأصول)

 

   فقال له أخي : ( إحنا مانفهمش فى الموت ده)  ، وأردفت أنا موضحا ( كل ما خطر ببالنا هو اختصار الطريق ، والطريق أقصر من المستشفى إلى المقبرة ) ، فهز رأسه أسفا ، وسأل عما إذا كنا قد بلغنا المحافظة!  

 

   فلما علم أننا لم نبلغ أحدا صاح قائلا : ( يا ناس هذا له مقامه ومركزه ، مستشار سابق ، لا بد أن ترسل له المحافظة كم عسكري سواري بجوار النعش) 

 

   فقلت ( واالله فى الحقيقة أنا لا أعرف هذه الأشياء ، والحمد لله أنك حضرت فى الوقت المناسب ، والبركة فيك ) 

 

   فنهض هذا الصديق الوفي النشيط من ساعته وأخطر المحافظة بالتليفون، واتصل بجريدة الأهرام لنشر النعي، ولما فرغ من ذلك عاد إلينا يقول: وأين هى المستشفى الذى تركتم فيه الفقيد؟ فلما عرف العنوان خاطب الإسعاف بالتليفون، ثم تركنا وأسرع بالخروج دون أن يلتفت إلينا، ومضت ساعة أو ساعتان، وإذا بنا نسمع بوق سيارة الإسعاف على بابنا، فنزلت وفتحت باب الحديقة الكبير، فدخل الصديق المهندس وخلفه رجال الإسعاف يحملون الجثمان، وساروا به فى ضوء القمر فوق ذلك الرصيف الطويل ، بخطى رتيبة وئيدة ذات إيقاع جليل مهيب، على ذلك البلاط، فى صمت الليل الرهيب، فخيل إلى أنها جثة هاملت فوق أكتاف الأبطال.

 

   ووضع الجثمان فى إحدى حجرات الجناح ،وكنا قد اتفقنا جميعا على أن يكون تشييع الجنازة فى الساعة الثالثة من بعد ظهر اليوم التالى ، حتى يستطيع الأهل والأقارب والمعارف الحضور بعد قراءة النعي فى الصباح ، وبالفعل ما كاد الموعد يقترب حتى كان كل شيء  قد تم ، إعداده ، ونصب صوان أمام البيت ، وجيء بالمغسلين ، فهمس لي الصديق المهندس أن من الواجب أن أحضر غسله ، فحضرت ، وكان المنظر لا ينسى لقد بدأت الجثة فى التحلل ؛ فقد مضى على الوفاة نحو أربع وعشرين ساعة، وكنا فى مطلع الصيف ، وحاول المغسلون أن يكتموا الرائحة بإطلاق البخور ، واجتمع فى المكان بعض الأقارب والأعمام ، فرأيتهم يبكون البكاء المر أمام المنظر ، حتى أولئك الذين كان بينهم وبين أبى قطيعة خلال حياته .. ولكن دموعي أنا كانت جامدة كالصخر ؛ لأني كنت فى واد آخر، كنت أتأمل منظرا عجيبا قلما يتكرر .. منظر وجه يتحول أمامي تحولات غريبة سريعة ، هذا الأنف الذى أعرفه لأبي قد بدأ يتخذ شكلا آخر ، بدأ يلين كأنه قطعة عجين ، والبطن قد انتفخ كأنه بالون يوشك أن ينفجر ، معالم والدي أخذت تتفكك أمامي ، كما يتفكك شكل سحابة فى السماء ويتلاشى ، إن الفناء إذن  ليس كلمة تكتب على الورق ويلوكها اللسان ! كنت أتأمل كل ذلك مأخوذا ، وقد نسيت تماما أن الذى أتأمله هو والد يجب أن أبكيه.

 

   شخص آخر أيضا كان مثلي يراقب الأمور – ولكن من زاويته الواقعية – محتفظا بهدوئه : هو الصديق المهندس ، لم يبك مع الباكين ، ولكنه كان يصدر الأوامر والتعليمات إلى المغسلين ، ليحثهم على الإتقان ، ويمنعهم من العجلة و “الكلفتة ” ، صائحا فيهم :” بالليفة والصابون من فضلكم ، الرغوة تكون تقيلة، امسحوا الكتف بالراحة ، هنا ناقص غسيل ، الشغل لازم ياخد حقه ” ، وهكذا كان ذلك المهندس يراقب ويدير كل شيء  كأنه أمام عمارة يباشر أعمال بنائها أو ترميمها.

   وخرجت الجنازة أخيرا من بيت الفقيد فى يوم جمعة من شهر مايو 1936  على صورة من المهابة والجلال والوقار لم أكن أتوقعها ، يحف بالنعش أربعة جنود من السواري على خيولهم المطهمة ، وسرت أنا وأخي خلف النعش ، وسار خلفنا خلق كثير ، لم أنتظر حضورهم ، ولا أدري من أين جاءوا ؟ ، لعلهم من معارف والدي أو من عارفي فضله الصامت ، هنا فقط ، وفى تلك اللحظة ، غلبتني الدموع ، وحاولت جاهدا أن أتماسك ، حتى لا أجهش بالبكاء وأنا وسط الناس.

 

   وبلغت المقبرة ، مقبرة الأسرة .. فى ناحية المنارة برمل الإسكندرية  تلك المقبرة التى كان آخر من دفن فيها جدتي سالفة الذكر ، وأذكر يوم ذهبنا لتشييع جنازتها أن فقهاء ” الترب ” بعد قيامهم بمراسيم التلاوة والتلقين ، وكذلك ” الترابية ” بعد أن سووا التربة وانتهوا من عملهم تجمعوا حول والدي يسألونه الأجر ، فأخرج من جيبه قروشا جعل ينفحها هنا وهناك ، وهو يشق طريقه بين الأيدي الممدودة المتدافعة ، فلما علا التصايح بطلب المزيد قال لهم بنبرته الجادة الوقورة الممزوجة بالسخرية الخفية : ” المرة الجاية ، المرة الجاية !  ”  ولم يكن بالطبع يدري ولا أحد من الحاضرين يدري أن المرة القادمة  سيكون هو نفسه المدفون.

 

 

 

 

 

الثلاثاء، 25 ديسمبر 2018

سجن العمر -1





مختارات من “سجن العمر” 1








 

بدون شوارب

بعث زوج الأخت : أي عديل والدي بخطاب إليه يقول فيه بالنص: أرسلنا إليكم اليوم تلغرافا تبشيرا بقدوم نجلكم السعيد ، تفصيل الخبر أنه فى الساعة العاشرة مساء الأمس شعرت السيدة حرمكم بألم يشبه الطلق ، فأردت إرسال الخادم إلى القابلة ، فامتنعت بقولها : ربما لا يكون الأمر كذلك ، ولم نزل مترقبين حالتها إلى الساعة الثانية بعد منتصف الليل حيث اشتد الألم ، ولم يعد هناك شك فى اقتراب الوضع ، وعندها أرسلنا الخادم ، وفى الساعة الثالثة حضرت القابلة وباشرت أعمالها إلى أن كانت الرابعة أقبل” أخينا ” مصحوبا بسلامة الوصول وقد رأيته صباح اليوم فوجدته مثل أبيه ، ولكن بدون شوارب

سِيدي البسطامي

روت لى أمي – فيما بعد –  أنى هبطت إلى الدنيا فى صمت ، دون بكاء أو صخب أو عويل ، شأن الكثير من الأطفال ، فحسبتني نزلت ميتا ، فارتاعت وهى على فراش وضعها ، وسألت القابلة ، التي ألقت بي بعيدا لتعنى بالأم : ” لمادا لا يبكي ويصيح ككل المواليد الأصحاء ؟ والتفت الجميع إلى ناحيتي فوجدوني أنظر – كما زعموا- إلى ضوء المصباح وإصبعي فى فمي شأن المتعجب! ياله من زعم إنَّ كل أم تريد أن ترى فى ابنها معجزة كمعجزة المسيح! لأنها فى هذه الحالة ستكون هى مريم! إذا ثبت حقا أني نزلت بغير صياح ، فلعل السبب هو أني كنت مكدودا من شدة الجذب إلى هذه الدنيا ، أو أنه كان بلساني علة من العلل ، أو أنه الضعف العام ، وربما كان أفضل من ذلك جميعا أن يقال، كما قيل فى الكبر، إني آثرت الصمت والسكون بخلا أو اقتصادا فى صياح لا طائل تحته


كانت أسرة والدتي من أهل البحر، ممن أطلق عليهم اسم البوغازية، ويظهر أن أصل هذه الأسرة من الترك أو الفرس أو ألبانيا، لا أدري بالضبط ، إن سحنة والدتي وجدتي ومالهما من عيون زرقاء تنم عن أصل غريب على كل حال ، ولم أرث أنا ولا شقيقي هذه الزرقة ولا مايقرب منها ، لأن سحنة والدي الفلاح القح كانت فيما يبدو قديرة على صبغ بحر أزرق بأكمله ، وكان جد والدتي لأمها يسمى ”  كلا يوسف ” ، وقيل إنه من قولة ، وجدها لأبيها كان يسمى الحاج ميلاد البسطامى ، أبيه ، وهو أبوها ، اسمه سليمان البسطامي ، وقيل إنه كانت لديه شجرة نسب تلحقه بأبي يزيد البسطامي الصوفي المعروف ، كانت أمي صغيرة السن ، لم تجاوز عامها الثالث يوم مات والدها ، وهو لم يزل شابا فى الخامسة والثلاثين، مات ولم تره ولم تعرفه، فظلت طول حياتها تسأل عنه من رآه ومن عرفه: ما شكله؟ ما صورته؟ ما خلقه؟ ما صفاته ؟ قالت لي إنه كان ممن أطلق عليهم الخديو فى ذلك العهد اسم العصاة ، لأنه كان من أنصار عرابي ، ولبثت عمرها كله ترسم له فى مخيلتها صورة الأبطال والأنبياء  والقديسين، فما كان عندها قسم أغلظ ولا أهم من القسم ”بسيدي البسطامي”،هكذا كانت تعلمني وأنا صغير، وربما كان قولي يحتمل الكذب عندها إذا قلت: ”وحياة النبي “، أما إذا قلت:” وحياة سيدي البسطامي” فما كان يغتفر لى أن أحنث به .


الزواج


جاءت العمة والأخت مرتديتين الملس لامعا جديدا ، يفوح منهما العطر الفلاحي من الخزام والزعفران ، وأحضرتا معهما صورة شمسية على الصفيح شأن التصوير فى ذلك العهد للعريس ، وهو متشح بوسام عضو النيابة . فما كادت  أمي بطموحها ترى هذا الوسام حتى ذهب لبها وعقدت العزم فى سرها على التمسك به، ذلك أنها كانت تعلم معنى هذا الوسام ، فقد كان لمنزل أسرتها نوافذ تطل على ما كان يسمى ” سكة الباشا ” ، أي الطريق الموصل إلى سراي رأس التين ، حيث كانت تمر يوم العيد مواكب رجال الحكومة الكبار فى ملابس التشريفة ، ومن بينهم رجال القضاء  بمثل هذه الأوسمة ، من يومها وهى تمني نفسها  بزوج له هذا الوسام ، إلا أن أهل  هذا العريس لم يتقدموا بمهر محترم، قالوا إنه شاب فى مستهل حياته عظمه مازال طريا، لا يحتمل كاهله المبلغ الطائل بعد ، وهاجت الأم وماجت، ورفضت وهى تضرب على صدرها: ” يا شماتة الأعادي ، أسلم بنتي بتراب الفلوس ؟! ” طردت الأم أهل العريس ولكن البنت الرغبة أرسلت خلفهم خفية خادمة لها تقول لهم سرا أن ارجعوا فالأم قد قبلت، ولم يسع الأم إلا النزول آخر الأمر على إرادة ابنتها المصرة.


أما والدي فقد كتب بالقلم الرصاص فى دفتره الصغير المعهود صفحة عنوانها”  تاريخ الزواج ” ، قال فيها بالنص والحرف : ليلة الدخول كانت ليلة الجمعة أي مساء الخميس الموافق 25 إبريل الموافق ليلة 7 محرم بالإسكندرية بمنزل حضرة ” زوج الأم ” ، وأقمت بالمنزل بصفة ضيف مع العروس إلى يوم الخميس الموافق 2 مايو، وفى يوم الأربعاء مساء قمت قاصدا الإسكندرية ، وقابلني على المحطة حضرة عديلي وذهبت توا إلى منزله، وهناك كانت عروسي، فأقمت إلى يوم السبت 9 مايو، ثم حضرنا جميعا أنا وعروسي وحماتي إلى المحلة الكبرى

هذا كل ما كتبه والدي فى هذا الموضوع، فإذا قلبنا الصفحة وجدناه قد كتب عنوانا آخر فى رأسها بهذا النص والحرف:

” بيان ما صرف بسبب الزواج ابتداء من 15 إبريل من جيبى الخاص “

  17 قرشا صاغا تذكرة درجة ثانية من المحلة إلى صفط الملوك فى 14 إبريل  

   10 قروش صاغ ليد عبده الخادم من ماهيته

  2  قرشا صاغا أجرة حمار فى تاريخه 

  5 قروش صاغ أجرة التخليص على فراخ إلى الإسكندرية

  5 قروش صاغ بقشيش للخدم يوم تاريخه




right side

دوا نُقَط

  دَوا نُقَط - 1-   ما اسم   ذلك الدواء ؟    علبة صغيرة، داخلها زجاجة أصغر، الزجاجة بها قطَّارة، القطارة تنزل منها النقاط بمقدار. الدو...