السبت، 27 يناير 2024

دوا نُقَط



 دَوا نُقَط





- 1-

 ما اسم  ذلك الدواء ؟

   علبة صغيرة، داخلها زجاجة أصغر، الزجاجة بها قطَّارة، القطارة تنزل منها النقاط بمقدار. الدواء المذكور كان يوزن بميزان الذهب كما علمتنا الأفلام ، نقطة زائدة لا أكثر قد تودي بحياة الأعزاء، وقد تنقذ الزوجة الشابة التي أُكِلتْ لحما؛ إذ أوصى  زوجها المسن – من على كرسيه المتحرك – أن توهب أمواله للجمعيات الخيرية.  كان الطبيب في تصريحه الأخير – قبل أن يغادر - وهو يسلم وصفته الطبية يستلهم روح ممثل آخر، في فيلم آخر : " خمس نقط لا أكثر ولا أقل " يقولها وهو يرفع سبابته متوعدا الحماقة كمفهوم، أو الزوجة الشابة التي ستئول مغامرتها حتما -  إلى العدم والإعدام بفضل المخرج القدير،  الذي لن يرضى لأحد أبطاله – مهما كانت مساحة دوره  - أن يجافي الحقيقة وطبائع الأمور . ليس للشر من مفر ، ليس له أن يرمح أكثر من ساعتين. كان الطبيب يوصي بإحضار الموت في علبة، ويشدد على تحري  السلوك الرشيد .

- 2 -

   جارتنا " أبلة هيام "  التحقت بنادي القلوب الجريحة شابة، إلا أن ذلك لم يعطلها عن شيء، حياتها تمشي بوتيرة طبيعية.مسألة لزومها بيتها لا تتعلق بتاتا  بالمرض، هي بالأساس تحب دور المضيف، لأسباب كثيرة أهمها أن ( نِفْسها ) لا تستسيغ طعام وشراب الآخرين إلا مضطرة. فَهِمَ أحبابها هذا العيب اليسير؛ فوفدوا إليها عن طيب خاطر، من الصباح تنتظر الزيارات، ترحيبها بالوافدين هو أكثر مشاهد حياتها إتقانا وتأثيرا، بابتسامة صحيحة تفتح باب شقتها، بشوقٍ كأن من زاروها بالأمس وأول الأمس، وهم الآن أمام بابها، عائدون توًا من هجرة طويلة !

  أبلة هيام لا تطمئن لأحد إزاء عقار " النقط " الشهير، تتلقف النقاط التي تمطرها العلبة في كوب نصفه ماء، تتفادي الهطول، مطرها ينزل بالكاد، أتذكر كان العدد خمسة يحدث بعد وقت طويل . لم تكن أبدا من الصنف المتشكك، هي - بالضبط - لا تريد لعزيز أن يقع في  الخطأ الإنساني غير المقصود .

 

    سيد أبوالعينين ، ابن عمها ، الشاويش في سلاح الشرطة العسكرية ، أقرب الأقارب إلى نفسها ، في جلساتهما يستعيدان معا ذكريات الطفولة وألعابها وسط قهقهات تتجدد مع كل زيارة . سيد هو أحد الذين نالوا نجمة سيناء إثر بطولاته  المشهود لها  في حرب أكتوبر، كان يحضر كثيرا بقامته الطويلة التي تبدو وكأنه اكتسبها بناءً على  حياته الطويلة في صفوف المحاربين، والدليل على ذلك أنه بعد أن خرج إلى الحياة المدنية، بعد أن أتم مدة سجنه ، عاد قصيرًا .

  في اليوم المشهود كان ينظف سلاحه وهو يشرب الشاي معها ( قالوا )  أو كان يمازحها،  لكن السلاح طال . خرجت من بندقيته الآلية دفعة استقرت في قلب هيام . فماتت شابة رغم التزامها بنصيحة الطبيب وأكثر . كم مرة حضرت سيارة الإسعاف، وحملت هيام ، ثم أعادتها إلينا ضاحكة منتظرة زوارها . في المساء تجلس أمام أطباق الترمس تتابع فيلما قد يكون " أغلى من حياتي " . عندما ماتت بـ الآلي ، لا بنقطة زائدة من الدواء ،  ردد الجميع ( لأن الحياة كالأفلام ) : سبحان الله!




 

- 3 -

    مرض القلب قد يرقّق القلوب ، إذا كان صاحبه حاذقا ، يعرف كيف ومتى يبدأ بثه . خذ مثلا الست عقيلة راتب أم سعاد حسني في فيلم  " ليلة الزفاف " ،  كانت تريد أن تحمي ابنتها الوحيدة  بعد أن مات الأب . سعاد أجمل الكائنات  . كانت سعاد تُماشي شابا من بتوع اليومين دول ، "  دول  " ثابتة رغم تغير الأزمان  . هو شاب يفتح ثلاثة زراير على الأقل في قميصه .الممثلة القديرة قالت لبنتها في عز المصيف :  " الدكتور قالِّي هوا إسكندرية تقيل وممكن يرجّع لي النوبة " . أمها كانت مريضة فعلا ( لا تمثيل يقوم على باطل )  إلا أن الله شفاها . وأمام المحنة الجديدة اشتاقت روحها للدواء ، لكن كيف ؟ اتفقت مع الخادمة على أن  تستبدل بدواء النقط ماء الورد  .كلما عنَّ لسعاد أن تستجيب لنداء الحب مع  الشاب التالف ، تسقط  الأم مغشيا عليها، وتجري الخادمة لتغمس القَطَّارة في الزجاجة، وتنزل على نصف كوب الماء بالنقاط المعدودات.سعاد متأنقة، على موعد . لكنها - ككل ابنة بارة - تضحي . مع الأيام ، مع انخراط الأم أكثر في التمثيل يأتي الجار أحمد مظهر،  شاب ، لكن قويم ، ببدلة وكرافتة ، على جبهته تقطيبة الجد والمسئولية . أضِفْ أنه  دكتور مثل المرحوم . ينجح الطبيب في إخراج الأم من أزمته.

   عندما دقت ساعة الفراق ، قدمت سعاد علبة من القطيفة بها خصلة من شعرها ؛ ليظل الشاب الفالت على العهد إلى الأبد ، وانتزعت بعض الشعرات من صدر رمزي ؛ ليكون " شَعرًا بشعر " .

  في ليلة الزفاف عندما اقترب أحمد - كعادة زملائه الممثلين- ليضع القبلة الأولى التي ستزدهربعدها الأحوال، ويصير الغريبان في لمح البصر بلا حياء، يالَسوء الطالع ! بكت سعاد، بكت سعاد بحرقة، وأخبرته أن قلبها هناك، وأن ما حدث ما هو إلا إرضاء للأم التي تحت أقدامها  الجنات . فتفهَّم وتراجع  كما يتراجع جنتل مان؛ فصارت الغرفة اثنتين : لسعاد السرير ، ولمظهر الأرض .

 

  أحمد رمزي – طبقا لعقيلة راتب - الـ " مِبلَّط 3 سنين في تانية هندسة، المصفرَاتي " بخفته المعهودة كشابٍ  لِوِن أضاع سعاد. أما الطبيب أحمد مظهر ، المحترم في أكتر من موقف وأكتر من من فيلم ،  بصبره واعتقاده في " إذا أحببت  شيئا بشدة ، فأطلِقْ سراحه ، فإن عاد فهو ملكك " .  صارت له  .  عادت سعاد ، رُفع الجدار العازل من وسط الغرفة . وأصبح ما تترجَّاه الأم هو – بالتمام والكمال - الحب الحقيقي في نظر سعاد . 

 



 

 

 

 

 

 

الأربعاء، 30 أغسطس 2023

قهوة علي مالك

قهوة علي مالك


الناشيونال الـ 14 بوصة

    رابطة خاصة بين عين شمس ومصر الجديدة، عتبة أكل العيش هناك، والمستقر هنا والجيران هنا وهناك. يمكن إدراك التميز بوسائل شتى ومعقدة، أن تنزل مثلا خطوة أو خطوتين ؛ فتصير حسابات تقييمك طبقا للمكان الأدنى أعلى. الحاج على نزل. هو أول من اشترى تليفزيونا في حارتنا ؛ فكان أولاد الجيران يزاحموننا في المباريات دائما، وفى السهرات المميزة أحيانا. لم يأت التليفزيون إلى بيتنا – من باب التشويق أو الظروف – دفعة واحدة، في البداية كانت زيارات متقطعة لتليفزيون القهوة، كان ناشيونال 14 بوصة، كان يزورنا بعد إلحاح لأيام ويعود ثانية نتيجة إلحاح معاكس من رواد القهوة. سحر تلك الصور التي صنعت لمعة مبكرة في جبينك بعد  مشاهدتها. ارتياح أو شحن سيجعل النوم وحيدا مخذولا رغم تجاوز الساعة منتصف الليل : أغلى من حياتى، قطار الليل أو القطر مش ها يوقف في طنطا طبقا لاستيفان روستى، مسلسل كمال الطبال الشهير بـ هارب من الأيام. الدموع الغزيرة التي ترافق أحمد ساعتين كاملتين، أحمد المدرس بمدرسة خليل باباز الابتدائية، الذي بفضل موهبته وحسن طويته والدعاء المستجاب لأمه ستنفتح له أبواب السماء المغلقة. وعلى كورنيش الإسكندرية  يبدأ مدندنا: بتلومونى ليه ؛  فتصعد الموسيقا فجأة من البحر ؛ لتعضد موقفه إزاء فاتنة تخصصت في حب  النابغين من الفقراء، إنها إنجى لكن بعد أن استوى الزمن المائل




ماستر سين: عندما تأتى إلى بيته متأثرة بسقوطه على خشبة المسرح وهو يشدو: حبك نار،  تطمئن عليه ثم تمضى منصرفة. الصدفة تجعلها تلحظ صورتها على الكومودينو، يشرع في الاعتذار. تنهى الموقف قائلة: حانشوف بعض كتير في الأيام الجاية.".

إنجى سيغنى لها أيضا محرم فؤاد الفنان البائس، الذي  صمدت أخلاقه الرفيعة أمام الذهب الخالص، سيعيد إليها سلسلة ذهبية عزيزة عليها ويرفض المقابل. بل سيقدم لها هدية بمناسبة عيد ميلادها، سيغنى لها في بيتها وسط شلالات  من فساتين السهرة والبدل الأسمكون.  يقف محرم ببدلته الفقيرة إلى جانب إنجى ويشدو: "من كام ليلة من كام يوم.. واحنا بنستنى دا اليوم". نجوى فؤاد لن تتمالك نفسها أمام عذوبة الصوت ؛  فترقص جالسة ثم تنطلق. هنا سيغضب الشاب الانتهازى الجالس على البار، الشاب ذو الحواجب الكثيفة والهيئة الأرستقراطية، الذي يريد أن يكوش على ثروة إنجى. 










هذا الشاب هو هو نفس الشاب الوطنى صديق إبراهيم حمدى الذي سيدبر بدلة الظابط لإبراهيم ، وستكون زبيدة ثروت هي الرسولة بينهما. حسن يوسف سيغضب ويعنف إبراهيم : إلا أختى، وفى يوم رمضانى  مع المدفع تماما سيهرب إبراهيم في هيئته الجديدة، زبيدة الحبيبة الصغيرة سترى الألم رأى العين. على السرير النحاس العالى  زهرة العلا  ستضم رأس العاشقة المنهارة إلى صدرها بحنان أخوى، وتشاركها البكاء



إلا أن إحسان الشكارى كانت هي الأقرب إلى القلب." إحسان   المتعلمة زيادة عن اللزوم :  بتفك الخط وتقول كلام يمس القلب ". قلبى ودموعى معها منذ أن غدر بها عماد حمدي - االطبيب المستهتر صائد البط










كان هناك مهدئ لاختفاء الصور والدموع  وفاتن وسعاد وهند وأنور وجدى والمليجى وسامية جمال وكل الصحبة عن بيتنا. تمثيلية خمسة وربع – البرنامج العام.

كنت مميزا، أنا الأكبر والولد، ويليق بى أن أتردد على مقهانا لأكون سندا للحاج، كانت فرصة لاستمتع دون إخوتى بالناشيونال  الـ14 بوصة مع جماهيره العديدين.

 

       بعد صلاة العشاء بمسجد عثمان بن عفان أكبر مساجد الحى وأكثرها أناقة. كان هناك فريق يهبط فجأة  للاستمتاع بمشاهدة التيلفزيون بقناتيه  5،7 ثم  5، 9.  سهرات لا تنسى حين تكون صغيرا وسط كبار يأكلون نجمات السينما أكلا. كنت أستغرب الكلام الحسى والوصف التفصيلى لأجساد الممثلات  من رجال أناديهم كلهم بعم فلان. كل لها ما يميزها عدا هند رستم : مش ناقصها حاجة - طبقا لمداخلة محمد السيد العامل بسينما بالاس. كنت أستغرب ذلك الولع الكامل بالمطربات "صوت وصورة": فايزة أحمد- نجاة – وردة. 

سعيد: سريح روبابيكا حجة في أغاني وردة الجزائرية، يحمل صورتها في محفظته الجلدية الفقيرة يخرجها أحيانا ليملى عينه داعيا من يجلسون قريبا منه للإيمان بنظريته: الرقبة رقبة بالصلاةُ ع النبى. في عربة سعيد الخشبية، في المقدمة هناك ضلفة رأسية كِنْزَة وعميقة بعمق العربية، يحتفظ فيها بالغالى والثمين الذي قنصه في سرحته، في هذه الضلفة المؤمنة بـ "رزة وقفل"  لديه أيضا وثائق رياضية: صفحات من الجرائد تشهد بمجد الشواكيش ؛  فهو ترسناوى صميم – يحكى بعصبية وفخر أمجاد ناديه، مـتأنيا بالطبع عند الشاذلي ومصفى رياض، وعندما يأتي على ذكر حسن على تزداد نبرته حدة ويضيف: ما حدش فاهم حسن، حسن على حارس مرمى عالمي. كان الكثيرون يحتشدون لمشاهدة  تمثيلية الضحية،  في اندماج نادر، أبرزهم عم حسين الجعفري الذي يلح في السؤال عن موعد التمثيلية، وعندما تبدأ يبدو غارقا في تفاصيلها. يشفط من كوب الشاي شفطات موقعة لها علاقة تخصه بسكنات وحركات الدراما. وفجأة ينهض معلنا :  بلا تمثيلية بلا زمارة.. إحنا أصحاب عيال، ويتبخر تماما من القهوة. 



لقراءة الكتاب كاملا :

https://www.4shared.com/web/preview/pdf/xEtn2lc8ba






السبت، 24 يوليو 2021

قصاقيص

قصاقيص

1

      كنا سبعة، ثم صرنا ستة، ظللنا على هذه الحال زمنا، فجأة أصبحنا خمسة، الآن نحن أربعة، كلما جلسنا، فيما اعتدنا أن نجلس، شعرنا بوسع المكان، صار كملابس ليست لنا، كملابس كانت لنا،  تواطأنا  أن نقترب من بعضنا تاركين الْهِوْ- الذي نجم فجأة - لحاله، كنوع من العقاب أو التجاهل، يشعر كل واحد فينا أننا قد نصير ثلاثة، ثم اثنين، فواحدا. طيب، في المرة الأولى حين كنا سبعة ثم صرنا ستة كان عاديا، لا لشيء، إلا لأنه يحدث لآخرين، لكن الوضع الآن بات مختلفا.

2

 وراء النافذة خمسة أطفال ، ولدان وثلاث بنات، ترابيزة صغيرة، فوقها راديو خشبي ضخم، فوقه مفرش صغير، على المفرش قط فرعوني من النحاس الأصفر، عند قدمي القط – كجزء لا يتجزأ- طفاية سجاير من ذات النحاس، ثلاجة إيديال 8 قدم وردت حديثا، بابها عليه عشرات الاستيكرات، على الأرض سجادة ملونة جدا تغطي كامل الصالة.  

    مع الأم ، عماته أو خالاته أو الجارات ، يجلسن وحولهن القصاقيص الباقيات من كسوة الشتا والصيف ، كلٌّ بمقصها، بهدوء وحذر  تقص فُضَل القماش التى لم تنل حظ أن تكون فستانا أو جلباية، المقص بسرعة مرعبة يحول الفضل إلى شرائط ، الشرائط تنهال على الأرض بالجوار، في نهاية السهرة ، الشرائط، على اختلاف ألوانها وموسمها، تتحول إلى كرات صغيرة. الكرات الصغيرة، بالصبروالكلام  والكلام ، تتحول إلى كرات كبيرة ، يسمونها كُرَرِية ، باعتبار ماكان. الكرات تذهب إلى شحتة القابع أمام نوْله، الكائن بشارع الأصبغ بالزيتون، بعد أيام تعود الكرات في هيئة سجادة  بألف لون ولون. 

3

    ورا ء النافذة خمسة أطفال ، يقفز الولدان ؛ فينضمان إلى الأتراب خارج  النافذة.     

خارج النافذة  نفس الرجلين يتبادلان الشتائم ، ويحلفان بأغلظ الإيمان ، وهناك من  يتبادلون الحكايات السريعة دون قصد ؛ لأن وقوفهما بالصدفة طال قليلا عند السلام  ، في النافذة المقابلة أم "زيكا" تصرخ بعزم الصوت،  زيكا – ذو الاثني عشر عاما- شيطان بإجماع الآراء، أم زيكا تصرخ؛ لتضع أصابعها العشرة في الشق، أو لتخلي مسئوليتها. صوت مذياع  يؤرخ للوقت ، في الصباح أبلة فضيلة وأغان وأغان منها للثلاثي المرح:  "هنا مقص وهنا مقص، أو"وحياتك يا بابا ودينا القناطر" . يوم الجمعة: الصلاة وعلى الناصية ومباراة اليوم ، في صباحه أطفال يلعبون السبعاوية (السبع طوبات)، وآخرون ينصبون التريك تُراك، وأولاد اكبر يقفون متنمرين، يريدون الشارع بالكامل؛ ليقيموا مباراتهم الدورية، قبل المباراة التي سينقلها الراديو و التليفزيون،  بين الشوطين مشيرة إسماعيل وعايدة رياض " شِك شِك مرزوقة تعالي جنبي"، بعد المبارة بوقت ليس بالكبير، فهمي عمر، على البرنامج العام،  يقدم تحليلا أدبيا للمباراة، انتماؤه للزمالك يعد تهمة، ومع ذلك  الكل يتلقف كلامه كلمة كلمة.

 

4

  في أيام تالية، سيترافق الولدان في زيارات عابرة لنجم نجوم الدعاة عبد الحميد كشك ، قلما استطاعا أن يدخلا المسجد ويرياه رأي العين،  الشوارع المحيطة بمسجد "عين الحياة" بها ميكرفونات، صوت الشيخ وقفشاته تغطي كامل الحي.المواصلات كانت قليلة وحاسمة، أفضل الوسائل للوصول إلى الشيخ كان "53"، 53  يبدأ من مساكن 23 يوليو على مقربة من الألف مسكن وينهي رحلته في دير الملاك ، 53 صاحب المسار الأقصر بين كل الأتوبيسات، بعد مفارقته لجسر السويس عند عزبة شنودة، يأخذ شارع عبد العزيز فهمي، فشارع الحجاز، مارا بمستشفى هليوبوليس، فمحكمة مصر الجديدة، ثم جامع الخلفاء، فالميرلاند، فروكسي، فكوبري القبة، فحدائقها، وأخيرا يمسك شارع مصر والسودان إلى أن يصل إلى مسجد "عين الحياة" على مقربة من نهاية خطه في دير الملاك.

5

      حين كان الابن الأكبر صغيرا ، مرةً،  كان هو وأبوه جالسين في "53"، قاصدين محطة روكسي، لكن صوتا غريبا منذرا انطلق فجأة، كبار الركاب  صرخوا : "أوقف يا أسطى دي  زمارة الخطر!" ، كنا أمام مدينة غرناطة تماما ،الساعة كانت التاسعة تقريبا، جرينا جميعا؛ لنختبئ في العمارة المقابلة ، التي يمكن تدخلها كما دخلنا من أمام غرناطة، وتشرف بضلعها الآخر المتعامد على موقف أتوبيس روكسي (جراج روكسي الآن).

   كان اليوم هو 5 يونيو 67، بعد لحظات طويلة انطلق نفير ثان لكن غير متقطع ، قالوا "زمارة الأمان" ، خرجنا إلى الشارع مفزوعين، لكن عندما وصلنا إلى أول راديو كان الاطمئنان في انتظارنا، وصل قبلنا بكثير، الأمور على مايرام، أكثر مما يرام ، وإن زمرت ألف زمارة، كان المذيع أيضا يزمر؛ احتفالا بسقوط طائرات العدو كالذباب.

     في مسار 53  كانت محطة  مسجد الخلفاء (الذي ظل فكرة لسنوات). في النصف الأول من السبعينيات ستصير الفكرة حقيقة، لا رجعة فيها.

6

  المسجد، كان وما زال، على ناصيتين - شارع السباق مع الحجاز ، شيخنا هو الدكتور سليمان ربيع، رجل خلوق، عصبي لكن في الحق، المسجد عبارة عن أرض واسعة مسوَّرة بالطوب الأحمر، مسقوفة بالبوص . خالي وصديقي ( يكبرني بسنوات قليلة ) كان رفيقي . كل جمعة آتي أنا من عين شمس وهو من الزيتون ، بيته قريب ، فقط يعبر جسر السويس من أمام المدبح ( مكتبة المستقبل  الآن ) ، بعد خمس دقائق نكون في الجامع، بعد الصلاة نمشي كثيرا، نتداول ، في انبهار، ماسمعناه توا . في يوم،  بعد أن أنهى الشيخ الجليل خطبته الثانية، قال "  جاني شاب الجمعة اللي فاتت وقال إنت بتهاجمنا رغْمَ إننا لا نأخذُ إلا بصحيحِ الدين ....)، ثم وزع بصره بالتساوي علينا ، وهو على المنبر، قائلا " بيقولوا لازم غطاء الرأس في الصلاة"، نزل على سلم المنبر بوجه أحمر، ألقى بعمامته أرضا وأردف : طَيْـ \ يِب، أقم الصلاة !! " وجهه الأحمر ازداد احمرارًا ، كثير مما قاله الشيخ سنقرؤه فيما بعد مطبوعا في كتاب الشيخ الغزالي الشهير "هموم داعية ".


    اعتاد شيخنا بعد كل صلاة جمعة أن يفترش منديله الفارغ على الأرض، ثم يقول " إن شاء الله بأهل الخير سيصير هذا المكان مسجدا كبيرا، ومدرسة ومستوصفا .أنا أرى بيتا من بيوت الله يعمر بكم " . مع الأيام انضمت مناديل كثيرة إلى منديل الشيخ، تنهمر الفلوس من كافة الفئات على المنديل:  ربع جنيه - نص جنيه -  جنيه بالكامل  – مرة لمحت  ورقة من فئة الخمسة جنيهات !

     في لمح البصر، بعد سنوات ثلاث على الأكثر  تغيرت معالم المكان، صار الفضاء المسقوف بالبوص المفروش بالحصر  جامعا كبيرا تتدلي من سقفه المراوح و النجف، وإلى جواره مدرسة أزهرية، يليها مستوصف كبير سيصير مستشفى، المسجد والمستشفى والمستوصف تحت عنوان واحد " الخلفاء الراشدين" .أمام مجمع الدكتور سليمان يظهر جانب من العمارات  الأحدث إنشاء – عمارات الميرلاند .

 في البدايات ، طالبات المدرسة الأزهرية كن يحملن إيشاربا أبيض يطوحنه في الهواء بفرح طفولي أو أنثوي ، وعند باب المدرسة يغطين به رءوسهن . وقريب العصر ، بعد انتهاء كل الحصص ، ومجيء وقت المرواح يخلعن الإيشاربات ، ويعدن إلى تطويحها في الهواء الطلق .بعد سنوات ظلت البنات يتركن الهواء الطلق صباحا ، ويعدن إليه عصرا، لكن دون تغيير يذكر ، صار غطاء الرأس موحدا كأنهن فتاة واحدة.

    ثمة يوم مشهود آخر ، قال شيخنا الوسطي بعد الصلاة ، عبر ميكرفون المسجد الجديد" إن شاء الله يوم الثلاثاء بعد صلاة المغرب فيه درس، وإن شاء الله كل ثلاثاء  " . في الموعد كنا ، أمام المحراب ترابيزة يجلس عليها  شيخان معروفان فيما يبدو ، أحدهما يغطي رأسه بشال  أبيض على الطريقة السعودية .عرفنا عليه " سيحدثكم أولا أخي الكريم الدكتور ......." .عرفنا أن الأخ الكريم الدكتور كان ممن خرجوا من السجن بعد سنوات طويلة ، كانت أيام السادات في بداياتها ،  كان حديثا عاما في السلوك الإسلامي الصحيح. ما لم يكن عاديا وقوف عدد ممن يجلسون بيننا في نهاية الدرس مرددين(القرآن دستورنا، والرسول زعيمنا، والجهاد سبيلنا، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا )، تلعثم لسان الصديق ولساني . هل بسبب المفاجأة ؟ أم لأن ماقيل لم يرقنا؟ أم لأن من أطلقوا الهتافات المدوية كانوا بيننا ولم نشك لحظة أنهم مننا؟ )

لم نستمر كثيرا في درس الثلاثاء ، لكن مما يذكر هنا أيضا، ذلك المحامي الذي كان يرتدي بذلة بنية اللون، بنية وإن غيَّرها!  قال مؤخرا عبد الحميد خالي وصديقي– ونحن نتجاذب أطراف الحديث بعد ما جرى كل ما جرى،: " هُمَّ بيحبوا البدل البني! ولما ابتسمت قال : الغوامق عموما!". على ذكر الابتسام، للمحامي المذكور ابتسامة غير مؤثرة، مع أنها في الصدارة، تبدو كأنها ليست له.

   نهض المحامي فجأة،  وقال معقبا مقاطعا المنصة،  " الحجاب فريضة ، كم أتمنى أن من يمشي في شواع مصر يشعر دون غلبة أنها بلد إسلامي. أرى بلادنا - بمشيئة الله وحوله- ليس فيها امرأة واحدة من دون  حجاب"،  قالها بحماسة، تبدو - في عرفه – كـ " شجاعة نادرة أو " لا يصح إلا الصحيح" أو "لا مواربة في الحق" ، أو ما نحو ذلك.

خيَّم الغضب على المنصة، الغضب أو العتاب أو كلاهما، نظر إليه أول الكبار نظرة مفادها " المؤمن كيِّس فطن" ، أما ثاني الكبار فقاطع المحامي بحسم :" اقعد يا أخ  اقعد يا أخ " قالها مرتين – بتنغيمٍ – جعلها أقرب إلى "اقعد يازفت".

 

7

   في أيام تلي ما سبق ، سيغادر الولد الأكبر إلى الإسكندرية لدواعي الدراسة ، سينضم الأصغر إلى إحدى الطرق الصوفية(لفترة محدودة)  يليها لسنوات وسنوات حب جارف لـ" صوت الموسيقا" ، يحيّ رفاقا لا يعرفهم في المواصلات العامة ؛ لأنهم يحملون نفس السِّبْحَة ، يسبحون أينما ولوا ؛ حتى لا يضيع الوقت دون ذكر ، السبحة صغيرة إلا أن التسعة و التسعين حبة حاضرة ، شيخ الطريقة الأكبر سوادني ، ومركزها عند البوابة الخضراء لمسجد الحسين ، الأكبر سيكون حاضرا البث الأول للجماعة الإسلامية في جامعة الإسكندرية ، عندما قرر السادات ذات يوم  أن يكون الرئيس المؤمن ، الابن الأكبر لم ينجذب إلى  ذوي الجلابيب أو البنطلونات القصيرة ، هو لم يدخل الجامعة أصلا من أجل ذلك ، لذا أخذ خطوات بعيدا عن ذوي الذقون الظاهرة والباطنة ، واقترب ممن يرتدون الملابس المدنية ، ويسمون أنفسهم الطلاب الديموقراطيين ،  كانوا يساريين ، ممن  تبقوا من آخر الهبات، أعني انتفاضة 18 و19 يناير 77 التي كان أيامها مازال  طالبا بالثانوي  ، التي سماها السادات انتفاضة الحرامية ، وشهد الابن الأكبر والأصغر وقتها أول تجارب حظر التجول.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

               

 

 

  

الأحد، 12 أبريل 2020

لقطة المترو


لقطة المترو



    أقف وسط الزحام، ووجهي – كالعادة - في اتجاه سير المترو.

   الصوت مؤثر فعلا، ومستقل، يعمل بكفاءة على نطاق واسع، يظل مسموعا، وإنْ هبط إلى قاع بعد قمة. 

     تجلس عكس الاتجاه، لكنها بدتْ قبل أنت تبدو، بفضل قوة الإشارة وجودتها، وبفضل أشياء اخرى. الصوت يقول: جميلة، موهوبة، لطيفة، ودودة إلى الدرجة المطلوبة، ليس هذا هو الظهور الأول لها، والشاهد على ذلك مايحدث حالا، هي تعرف ما تود قوله .حاضرة الذهن، وربما تحضرُها أذهانٌ أخرى، لا تبحث عن الكلام، كأنها قالته من قبل عشرات المرات. يمكن أن نضيف إلى الجملة السابقة: " ومع ذلك كأنها تصنعه الآن – على إيدك ". 

   شدَّني - أن أرى قبل أن أرى – الصوت ، صوتها  لا يدع الجملة في الوِسْع، إلا بعد أن يلون بعض كلماتها أو يظللها أو يضع خطوطا تحت المستهدف أكثر، وفي أحيان قليلة قد يُخرج سهما من الكلمة ؛ ليشرحها في هامش صغير، سكتاتها تطول وتقصر ؛ لتعطي المجال للتفاعل أوالاستحسان، أو لسحب الجملة القادمة برفق .  أعتقد أنها كانت مهتمة جدا أن يتم التسليم والتسلُّم بصورة محددة، تعرفها، وتنتظر حدوثها ؛ لتكمل. تفعل ذلك كله بـ الطريقة.

    عندما التفتُّ؛ لأدخل عصر الصورة، لم تكن هناك مفاجآت، كانت كما الصوت: جميلة موهوبة ودودة سريعة البديهة، وبسيطة وعفوية. ثمة خفة أو تفاهة ؟ تفاهتها – إنْ كانت - في صميم الشخصية .
 
   هذه التفاهة – فرضًا يعني - إنْ عُزلتْ لصارت الأمور في غاية  الخطورة: ستأخذ في سكتها ما لا يُقدَّر: حضورها اللافت المتعوب فيه، قدرتها على البث عكس الاتجاه، اختلاف الوتيرة، التنوع المذهل في عناصر الجملة، التنقل بيسر بين عدد من الموضوعات في فترة زمنية جد محدودة، لا تزيد بأية حال عن أربع  محطات مترو.  

    تطعّم الجمل بقفشات من وحي اللحظة، وبنفس خيط الغزْل ، تعقبها ابتسامة محدودة منها، وابتسامة أكبر من صديقتها، قد تضحك الصديقة أو تكركر، لكنها تعود سريعا. أنا أقدِّر اللعبة الحلوة، ولا أستطيع إلا أن  أتفاعل، بالطبع قد أحاول التماسك أحيانا، من باب الغلاسة أو من باب احترام خصوصية من يشاركونني بالصدفة وسيلة مواصلات عامة .

    المهم، قهقهتُ وعلا صوتي وصوت آخرين، لكن العرض لم يتوقف للحظة، هي تكتفي بابتسامة قصيرة كأنها ترشد إلى نوع الاستجابات المطلوبة ، لا أكثر، وأنا وصديقتها وآخرون - كما ترون . استغربت هذا البرود منها، لكن الصراحة بعد تفكير ليس طويلا، تيقنتُ  : كل ما في الأمر أنها  كانت مشغولة بـ التالي، هي تقدم فقرة طويلة، ولن تنجرف في تيار إعجاب مازال في مهده، فضلا عن كونها تبث على الهواء .

    لما التفتُّ؛ فصرت في نفس الاتجاه كانت  تحادث صديقتها المواجهة لها في المترو، نعم هي أصغر قليلا من صوتها، لكن لا نستطيع أن نتحدث بالمرة عن " عدم مناسبة " . المترو شديد الازدحام، إلا أنها لم تتأثر، ليس لأهمية ما تقول أوإلحاحه، في الغالب  هي  اعتادت أنْ  تنجز  في أصعب الظروف. 

   إضافة إلى ما سبق، ما كان مؤثرا في المشهد هو المشاركة المميَّزة لصديقتها، كانت دائمة التفاعل المحسوب والعفوي، والابتسام والضحك بدرجاته ، ومع ذلك لم تكن ، في أي لحظة، مأخوذة تماما . مداخلاتها محدودة ، لكن في القلب . تقدر مسألة الوقت – المترو لن يظل سائرا إلى الأبد؛  لذا لم أسمع كلمة واحدة ، سواء عندما كانت عكس الاتجاه أو فيما  بعد، ما من شأنه تشيتت الأهداف المرجوة . أنت أمام خطاب متسق ، حقيقي ومؤثر، يتم بين صديقتين - طرفين أحدهما أساسي والثاني جمهور.

     تشعر كأن الحلقة قد تم تجهيزها من قبل، لصناعة صورة ؟ بحثا عن جمهور أوسع ؟ أي صورة وأي جمهور ؟!  عندما تأتي المحطة المطلوبة ستنزلان فجأة تاركتين خلفهما إعجابا يتناقص تدريجيا، مع كل محطة. أعتقد أن الإعداد قد تم فعلا، بهدف  أن يصير العفوي عفويا، فكما هو معروف، الحقيقي لن يسعفه فقط كونه حقيقيا . 




right side

دوا نُقَط

  دَوا نُقَط - 1-   ما اسم   ذلك الدواء ؟    علبة صغيرة، داخلها زجاجة أصغر، الزجاجة بها قطَّارة، القطارة تنزل منها النقاط بمقدار. الدو...