السبت، 24 يوليو 2021

قصاقيص

قصاقيص

1

      كنا سبعة، ثم صرنا ستة، ظللنا على هذه الحال زمنا، فجأة أصبحنا خمسة، الآن نحن أربعة، كلما جلسنا، فيما اعتدنا أن نجلس، شعرنا بوسع المكان، صار كملابس ليست لنا، كملابس كانت لنا،  تواطأنا  أن نقترب من بعضنا تاركين الْهِوْ- الذي نجم فجأة - لحاله، كنوع من العقاب أو التجاهل، يشعر كل واحد فينا أننا قد نصير ثلاثة، ثم اثنين، فواحدا. طيب، في المرة الأولى حين كنا سبعة ثم صرنا ستة كان عاديا، لا لشيء، إلا لأنه يحدث لآخرين، لكن الوضع الآن بات مختلفا.

2

 وراء النافذة خمسة أطفال ، ولدان وثلاث بنات، ترابيزة صغيرة، فوقها راديو خشبي ضخم، فوقه مفرش صغير، على المفرش قط فرعوني من النحاس الأصفر، عند قدمي القط – كجزء لا يتجزأ- طفاية سجاير من ذات النحاس، ثلاجة إيديال 8 قدم وردت حديثا، بابها عليه عشرات الاستيكرات، على الأرض سجادة ملونة جدا تغطي كامل الصالة.  

    مع الأم ، عماته أو خالاته أو الجارات ، يجلسن وحولهن القصاقيص الباقيات من كسوة الشتا والصيف ، كلٌّ بمقصها، بهدوء وحذر  تقص فُضَل القماش التى لم تنل حظ أن تكون فستانا أو جلباية، المقص بسرعة مرعبة يحول الفضل إلى شرائط ، الشرائط تنهال على الأرض بالجوار، في نهاية السهرة ، الشرائط، على اختلاف ألوانها وموسمها، تتحول إلى كرات صغيرة. الكرات الصغيرة، بالصبروالكلام  والكلام ، تتحول إلى كرات كبيرة ، يسمونها كُرَرِية ، باعتبار ماكان. الكرات تذهب إلى شحتة القابع أمام نوْله، الكائن بشارع الأصبغ بالزيتون، بعد أيام تعود الكرات في هيئة سجادة  بألف لون ولون. 

3

    ورا ء النافذة خمسة أطفال ، يقفز الولدان ؛ فينضمان إلى الأتراب خارج  النافذة.     

خارج النافذة  نفس الرجلين يتبادلان الشتائم ، ويحلفان بأغلظ الإيمان ، وهناك من  يتبادلون الحكايات السريعة دون قصد ؛ لأن وقوفهما بالصدفة طال قليلا عند السلام  ، في النافذة المقابلة أم "زيكا" تصرخ بعزم الصوت،  زيكا – ذو الاثني عشر عاما- شيطان بإجماع الآراء، أم زيكا تصرخ؛ لتضع أصابعها العشرة في الشق، أو لتخلي مسئوليتها. صوت مذياع  يؤرخ للوقت ، في الصباح أبلة فضيلة وأغان وأغان منها للثلاثي المرح:  "هنا مقص وهنا مقص، أو"وحياتك يا بابا ودينا القناطر" . يوم الجمعة: الصلاة وعلى الناصية ومباراة اليوم ، في صباحه أطفال يلعبون السبعاوية (السبع طوبات)، وآخرون ينصبون التريك تُراك، وأولاد اكبر يقفون متنمرين، يريدون الشارع بالكامل؛ ليقيموا مباراتهم الدورية، قبل المباراة التي سينقلها الراديو و التليفزيون،  بين الشوطين مشيرة إسماعيل وعايدة رياض " شِك شِك مرزوقة تعالي جنبي"، بعد المبارة بوقت ليس بالكبير، فهمي عمر، على البرنامج العام،  يقدم تحليلا أدبيا للمباراة، انتماؤه للزمالك يعد تهمة، ومع ذلك  الكل يتلقف كلامه كلمة كلمة.

 

4

  في أيام تالية، سيترافق الولدان في زيارات عابرة لنجم نجوم الدعاة عبد الحميد كشك ، قلما استطاعا أن يدخلا المسجد ويرياه رأي العين،  الشوارع المحيطة بمسجد "عين الحياة" بها ميكرفونات، صوت الشيخ وقفشاته تغطي كامل الحي.المواصلات كانت قليلة وحاسمة، أفضل الوسائل للوصول إلى الشيخ كان "53"، 53  يبدأ من مساكن 23 يوليو على مقربة من الألف مسكن وينهي رحلته في دير الملاك ، 53 صاحب المسار الأقصر بين كل الأتوبيسات، بعد مفارقته لجسر السويس عند عزبة شنودة، يأخذ شارع عبد العزيز فهمي، فشارع الحجاز، مارا بمستشفى هليوبوليس، فمحكمة مصر الجديدة، ثم جامع الخلفاء، فالميرلاند، فروكسي، فكوبري القبة، فحدائقها، وأخيرا يمسك شارع مصر والسودان إلى أن يصل إلى مسجد "عين الحياة" على مقربة من نهاية خطه في دير الملاك.

5

      حين كان الابن الأكبر صغيرا ، مرةً،  كان هو وأبوه جالسين في "53"، قاصدين محطة روكسي، لكن صوتا غريبا منذرا انطلق فجأة، كبار الركاب  صرخوا : "أوقف يا أسطى دي  زمارة الخطر!" ، كنا أمام مدينة غرناطة تماما ،الساعة كانت التاسعة تقريبا، جرينا جميعا؛ لنختبئ في العمارة المقابلة ، التي يمكن تدخلها كما دخلنا من أمام غرناطة، وتشرف بضلعها الآخر المتعامد على موقف أتوبيس روكسي (جراج روكسي الآن).

   كان اليوم هو 5 يونيو 67، بعد لحظات طويلة انطلق نفير ثان لكن غير متقطع ، قالوا "زمارة الأمان" ، خرجنا إلى الشارع مفزوعين، لكن عندما وصلنا إلى أول راديو كان الاطمئنان في انتظارنا، وصل قبلنا بكثير، الأمور على مايرام، أكثر مما يرام ، وإن زمرت ألف زمارة، كان المذيع أيضا يزمر؛ احتفالا بسقوط طائرات العدو كالذباب.

     في مسار 53  كانت محطة  مسجد الخلفاء (الذي ظل فكرة لسنوات). في النصف الأول من السبعينيات ستصير الفكرة حقيقة، لا رجعة فيها.

6

  المسجد، كان وما زال، على ناصيتين - شارع السباق مع الحجاز ، شيخنا هو الدكتور سليمان ربيع، رجل خلوق، عصبي لكن في الحق، المسجد عبارة عن أرض واسعة مسوَّرة بالطوب الأحمر، مسقوفة بالبوص . خالي وصديقي ( يكبرني بسنوات قليلة ) كان رفيقي . كل جمعة آتي أنا من عين شمس وهو من الزيتون ، بيته قريب ، فقط يعبر جسر السويس من أمام المدبح ( مكتبة المستقبل  الآن ) ، بعد خمس دقائق نكون في الجامع، بعد الصلاة نمشي كثيرا، نتداول ، في انبهار، ماسمعناه توا . في يوم،  بعد أن أنهى الشيخ الجليل خطبته الثانية، قال "  جاني شاب الجمعة اللي فاتت وقال إنت بتهاجمنا رغْمَ إننا لا نأخذُ إلا بصحيحِ الدين ....)، ثم وزع بصره بالتساوي علينا ، وهو على المنبر، قائلا " بيقولوا لازم غطاء الرأس في الصلاة"، نزل على سلم المنبر بوجه أحمر، ألقى بعمامته أرضا وأردف : طَيْـ \ يِب، أقم الصلاة !! " وجهه الأحمر ازداد احمرارًا ، كثير مما قاله الشيخ سنقرؤه فيما بعد مطبوعا في كتاب الشيخ الغزالي الشهير "هموم داعية ".


    اعتاد شيخنا بعد كل صلاة جمعة أن يفترش منديله الفارغ على الأرض، ثم يقول " إن شاء الله بأهل الخير سيصير هذا المكان مسجدا كبيرا، ومدرسة ومستوصفا .أنا أرى بيتا من بيوت الله يعمر بكم " . مع الأيام انضمت مناديل كثيرة إلى منديل الشيخ، تنهمر الفلوس من كافة الفئات على المنديل:  ربع جنيه - نص جنيه -  جنيه بالكامل  – مرة لمحت  ورقة من فئة الخمسة جنيهات !

     في لمح البصر، بعد سنوات ثلاث على الأكثر  تغيرت معالم المكان، صار الفضاء المسقوف بالبوص المفروش بالحصر  جامعا كبيرا تتدلي من سقفه المراوح و النجف، وإلى جواره مدرسة أزهرية، يليها مستوصف كبير سيصير مستشفى، المسجد والمستشفى والمستوصف تحت عنوان واحد " الخلفاء الراشدين" .أمام مجمع الدكتور سليمان يظهر جانب من العمارات  الأحدث إنشاء – عمارات الميرلاند .

 في البدايات ، طالبات المدرسة الأزهرية كن يحملن إيشاربا أبيض يطوحنه في الهواء بفرح طفولي أو أنثوي ، وعند باب المدرسة يغطين به رءوسهن . وقريب العصر ، بعد انتهاء كل الحصص ، ومجيء وقت المرواح يخلعن الإيشاربات ، ويعدن إلى تطويحها في الهواء الطلق .بعد سنوات ظلت البنات يتركن الهواء الطلق صباحا ، ويعدن إليه عصرا، لكن دون تغيير يذكر ، صار غطاء الرأس موحدا كأنهن فتاة واحدة.

    ثمة يوم مشهود آخر ، قال شيخنا الوسطي بعد الصلاة ، عبر ميكرفون المسجد الجديد" إن شاء الله يوم الثلاثاء بعد صلاة المغرب فيه درس، وإن شاء الله كل ثلاثاء  " . في الموعد كنا ، أمام المحراب ترابيزة يجلس عليها  شيخان معروفان فيما يبدو ، أحدهما يغطي رأسه بشال  أبيض على الطريقة السعودية .عرفنا عليه " سيحدثكم أولا أخي الكريم الدكتور ......." .عرفنا أن الأخ الكريم الدكتور كان ممن خرجوا من السجن بعد سنوات طويلة ، كانت أيام السادات في بداياتها ،  كان حديثا عاما في السلوك الإسلامي الصحيح. ما لم يكن عاديا وقوف عدد ممن يجلسون بيننا في نهاية الدرس مرددين(القرآن دستورنا، والرسول زعيمنا، والجهاد سبيلنا، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا )، تلعثم لسان الصديق ولساني . هل بسبب المفاجأة ؟ أم لأن ماقيل لم يرقنا؟ أم لأن من أطلقوا الهتافات المدوية كانوا بيننا ولم نشك لحظة أنهم مننا؟ )

لم نستمر كثيرا في درس الثلاثاء ، لكن مما يذكر هنا أيضا، ذلك المحامي الذي كان يرتدي بذلة بنية اللون، بنية وإن غيَّرها!  قال مؤخرا عبد الحميد خالي وصديقي– ونحن نتجاذب أطراف الحديث بعد ما جرى كل ما جرى،: " هُمَّ بيحبوا البدل البني! ولما ابتسمت قال : الغوامق عموما!". على ذكر الابتسام، للمحامي المذكور ابتسامة غير مؤثرة، مع أنها في الصدارة، تبدو كأنها ليست له.

   نهض المحامي فجأة،  وقال معقبا مقاطعا المنصة،  " الحجاب فريضة ، كم أتمنى أن من يمشي في شواع مصر يشعر دون غلبة أنها بلد إسلامي. أرى بلادنا - بمشيئة الله وحوله- ليس فيها امرأة واحدة من دون  حجاب"،  قالها بحماسة، تبدو - في عرفه – كـ " شجاعة نادرة أو " لا يصح إلا الصحيح" أو "لا مواربة في الحق" ، أو ما نحو ذلك.

خيَّم الغضب على المنصة، الغضب أو العتاب أو كلاهما، نظر إليه أول الكبار نظرة مفادها " المؤمن كيِّس فطن" ، أما ثاني الكبار فقاطع المحامي بحسم :" اقعد يا أخ  اقعد يا أخ " قالها مرتين – بتنغيمٍ – جعلها أقرب إلى "اقعد يازفت".

 

7

   في أيام تلي ما سبق ، سيغادر الولد الأكبر إلى الإسكندرية لدواعي الدراسة ، سينضم الأصغر إلى إحدى الطرق الصوفية(لفترة محدودة)  يليها لسنوات وسنوات حب جارف لـ" صوت الموسيقا" ، يحيّ رفاقا لا يعرفهم في المواصلات العامة ؛ لأنهم يحملون نفس السِّبْحَة ، يسبحون أينما ولوا ؛ حتى لا يضيع الوقت دون ذكر ، السبحة صغيرة إلا أن التسعة و التسعين حبة حاضرة ، شيخ الطريقة الأكبر سوادني ، ومركزها عند البوابة الخضراء لمسجد الحسين ، الأكبر سيكون حاضرا البث الأول للجماعة الإسلامية في جامعة الإسكندرية ، عندما قرر السادات ذات يوم  أن يكون الرئيس المؤمن ، الابن الأكبر لم ينجذب إلى  ذوي الجلابيب أو البنطلونات القصيرة ، هو لم يدخل الجامعة أصلا من أجل ذلك ، لذا أخذ خطوات بعيدا عن ذوي الذقون الظاهرة والباطنة ، واقترب ممن يرتدون الملابس المدنية ، ويسمون أنفسهم الطلاب الديموقراطيين ،  كانوا يساريين ، ممن  تبقوا من آخر الهبات، أعني انتفاضة 18 و19 يناير 77 التي كان أيامها مازال  طالبا بالثانوي  ، التي سماها السادات انتفاضة الحرامية ، وشهد الابن الأكبر والأصغر وقتها أول تجارب حظر التجول.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

               

 

 

  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

right side

دوا نُقَط

  دَوا نُقَط - 1-   ما اسم   ذلك الدواء ؟    علبة صغيرة، داخلها زجاجة أصغر، الزجاجة بها قطَّارة، القطارة تنزل منها النقاط بمقدار. الدو...